منذ 7 سنوات | حول العالم / Huffington Post

للوهلة الأولى يبدو العنوان صادماً إلى حد كبير، ولكن تعالوا بنا خلال المقال نراجع وندقق النظر لنرى إن كان التعليم الذي تتلقاه الأجيال الآن يُخرج منتوجاً كما أردنا تحقيقه من خلاله أم لا.

على عكس المتوقع فلن أتحدث عن الواقع في مدارسنا وجامعاتنا فهو من الشهرة بمكان بحيث لا يجعلنا نخوض في تفاصيله وهي واضحة جلية من خلال ما نعايشه، فلا يكاد يخلو بيت من البيوتات من طالب أو طالبة في مرحلة من المراحل يرى الأبوين من خلالهما كيف هو نظامنا التعليمي، وهو يحرق الطلاب في أتونه.

ولعل المقولة المشهورة "التاريخ يكرر نفسه أحياناً" صادقة في جانب منها، ولكنه يتكرر مع اختلاف الأمكنة والأزمنة والمجتمعات التي تتكرر فيها هذه المراحل والظواهر، والذكي الكيّس من يستفيد من هذه الأخطاء التي وقع فيها غيره ولا يكرر هو نفس التجربة ونفس الخطأ، وإلا فنحن بلغنا شوطاً بعيداً في الغباء، اللهم إلا لو كنا نفعله عن قصد وهذه خيانة كبيرة لا تغتفر، وهذا ما أود قوله، إذ إننا لسنا أول أمة من الأمم قد عانت من ضعف نظامها التعليمي، ولن نكون آخر أمة، ولن يضيرنا أن نتعلم من أخطاء الآخرين بما يعود علينا بالنفع في أنظمتنا ومنها نظامنا التعليمي بما يتناسب مع مبادئنا وأفكارنا.

في كتابه "سيكولوجية الجماهير" للمفكر الكبير غوستاف لوبون كان يتحدث في أحد فصوله عن التعليم والتربية كأحد العوامل المؤثرة في عقائد الجماهير، حيث ناقش ما مرت به الأمة الفرنسية في نظامها التعليمي آنذاك منذ مائتي عام تقريباً، ولقرب التفاصيل التى لا تكاد تختلف فقد ارتأيت أن أنقلها لعلها تنبه غافلاً أو تبث أملاً أو تقدم دليلاً.

بدأ غوستاف لوبون حديثه عن أهمية التعليم في حياة البشر وتحسين أوضاعهم وإصلاحها، وكذلك جعلهم متساوين، ولكن بالنظر والبحث يتضح أن هناك تناقضاً كبيراً على أرض الواقع فيما يخص هذه النقطة والتجربة، إذ إنه كان يمكن إثبات عكس ذلك، فيقول غ.ل: "فالفلاسفة العديدون وخصوصاً هيربيرت سبنسر كانوا يستطيعون البرهنة بسهولة على أن التعليم لا يجعل الإنسان لا أكثر أخلاقية ولا أكثر سعادة، وإنه لا يغير غرائزه وأهواءه الوراثية وإذا ما طُبق بشكل سيئ فإنه يصبح ضاراً أكثر مما هو نافع".

وقد استشهد لوبون بما قاله علماء الإحصاء فقالوا بأن الجريمة تتزايد مع تعميم ظاهرة التعليم، وكما برهنوا لنا على أن أكبر أعداء المجتمع أي الفوضويون يجنّدون غالباً في صفوفهم الفائزين الأوائل في المدارس، وقد لاحظ أحد القضاة المرموقين السيد أدولف غيلر أننا نعد ثلاثة آلاف مجرم متعلم مقابل ألف مجرم أُميّ، وقال بأن الجريمة زادت خلال خمسين عاماً من مائتين وسبعة وعشرين مقابل كل مائة ألف إلى خمسمائة واثنين وخمسين مقابل نفس العدد: أي أن الزيادة كانت بنسبة 133%.

وبمتابعة سريعة لحالتنا المصرية فسنجد أننا نحتل المراكز الأخيرة تقريباً بين مصاف الدول، وفيما يخص مقالنا ففي المجال العلمي تربعت مصر على عرش المركز الأخير في جودة إدارة المدارس والمرتبة الـ136 من بين 144 دولة في جودة التعليم، وعلى جانب آخر فقد احتلت مصر المركز 127 في معدل انتشار الجريمة، ولا غرو فالارتباط بين التعليم وباقي المجالات واضح جليّ.

بالعودة إلى لوبون حيث يستدرك قائلاً بأن التعليم الجيد لا بد أن يؤدي إلى نتائج مفيدة، وإذا كان لا يرفع مستوى الأخلاقية لدى الشخص، فإنه على الأقل يتيح له تطوير قدراته المهنية، ويتأسف على أن الشعوب اللاتينية لم تؤسس نظامها التعليمي على أسس ومبادئ جيدة وبالرغم من كل محاولات الإصلاح التي نادى بها المفكرون فإنهم يصرون على خطئهم وأن التعليم الحالى لا يقدم شيئاً إلا أعداء للمجتمع بعد تحولهم في مفرخة التعليم.

يتجه لوبون بعد ذلك لبحث الأسباب والأخطاء التي وقعت فيها هذه الدول، ومفاد الأمر أنها مرتكزة على خطأ نفسي أساسه أن استذكار الكتب المدرسية يطور الذكاء، لذلك يجتهد الطلاب في تعلمهم أكبر قدر من المعلومات واختزانها -منذ المرحلة الأولى حتى نهاية دراسته بل وحتى حصوله على الدكتوراه- دون إعمالهم عقولهم وإبداء آرائهم، ويستشهد بمقولة جولي سيمون وكان وزيرا سابقاً للتعليم: "إن تعلم الدروس وحفظ القواعد أو المختصرات عن ظهر قلب يشكل ثقافة مسلية، وهي لا تؤدي في النهاية إلا إلى خفض مستوانا".

ثم يستطرد بأن هذا التعليم عديم الجدوى القائم على الحفظ والاستذكار ليست هذه سلبياته فحسب، ولكن أيضا يعمل على اختصار المستقبل لدى الأطفال والشباب في وظيفة معينة يحلم بها ويسعى لتحقيقها من وظائف عامة، حيث لا يتطلب النجاح جهداً أو مبادرة ذاتية، من هذا نستطيع فهم المنتج التعليمي الذي خرّجته الدولة من مدارسها وجامعاتها بواسطة تلك الكتب البائسة، من أعداد كبيرة للطلاب لا تستطيع الدولة توظيفهم إلا قليلاً، وتترك الآخرين بلا عمل ثم تقتنع بأنها تقدم الطعام لمن عينتهم ووفرت لهم الوظائف والباقين بلا شيء، ويوضح بأن معظم هؤلاء الخريجين ليسوا مؤهلين للعمل، فالتاجر لا يجد إلا بشق الأنفس وكيلا يستطيع تمثيله والنيابة عنه.

ومثال آخر على ذلك حيث إن محافظة "السين" وحدها تحتوي على عشرين ألف معلم ومعلمة بلا عمل، وبما أنهم يحتقرون العمل في الحقول أو المصانع، فإنهم يتوجهون بطلباتهم للدولة لكي يعيشوا، وبالطبع لن تقبل الدولة كل هؤلاء ومن هنا يكون عدد الناقمين عليها كبيراً، وهؤلاء -كما يصفهم- مستعدون لخوض كل الثورات أياً كانت أهدافها أو قادتها، "فاكتساب المعارف التي لا يمكن استخدامها هو الوسيلة المؤكدة لتحويل الإنسان إلى متمرد".


أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024