منذ 6 سنوات | فن ومشاهير / الحرة

في أحاديثه الصحافية يردّد المخرج الروسي آندريه زفياغنتسيف أن العيش في روسيا اليوم يجعل المرء يشعر أنه يعيش في حقل ألغام. والحقيقة أن من يتابع سينما هذا السينمائي الشاب (ثلاثة وخمسون سنة هذا العام)، ومنذ ظهوره المدوي بفيلمه الروائي الطويل الأول «العودة» عام 2003، سيصل إلى هذه النتيجة نفسها حتى من دون أن يكون قد قرأ أي تصريح للمخرج. فمن دون استثناء تبدو أفلام زفياغنتسيف حاملة سؤالاً حارقاً عما وصلت إليه الحياة في بلاده بعد ما لا يقل عن ربع قرن من وعد السعادة والرفاه الذي أتت به تلك التغيرات الكبرى التي قضت على البيروقراطية والظلم والظلامية وحكم الحزب الواحد وما إلى ذلك. سؤال زفياغنتسيف بسيط: أين ذهبت تلك السعادة الموعودة كلها؟ من الذي دمّر المجتمع الروسي؟ من الذي أثبط الفرد الروسي؟

 

الجواب «الغائب»

في الحقيقة لن يكون من المنطقي مطالبة صاحب نصف دزينة من أفلام جالت على دزينات من المهرجانات وحصدت دزينات من الجوائز، بأن يعطينا أي جواب قاطع على تلك الأسئلة التي تصب جميعاً في سؤال واحد. فهل أجابت مثلاً عشرات النصوص التي كتبها أنطون تشيخوف ذات يوم حول أسئلة خيبة أخرى طرحها الإنسان الروسي على نفسه نهايات القرن التاسع عشر وبدايات تاليه القرن العشرين؟ على الإطلاق... لكنها وكما يفعل اليوم هذا «التشيخوفيّ» المعاصر، طرحت الأسئلة. والأسئلة اليوم قاسية جداً بالتأكيد، لا سيما حين تنطرح في لغة سينمائية شديدة الراهنية والقوة. سينما بدت كبيرة منذ اللقطات الأولى لأول أفلامه. فهنا في «الملحق» نذكر أننا فيما كنا ننتظر وصول مقال عن مهرجان البندقية في صيف عام 2003 من موفدنا إلى ذلك المهرجان، أن الموفد اتصل بنا ملحّاً أن ننتظر ساعة أخرى لينتهي عرض فيلم روسي مفاجئ تأخر عرضه عن موعد إغلاق الملحق، لكن بال الموفد لن يهدأ إلا إذا كتب عنه على الفور. كان للموفد ما أراد، استجابة لحماسته... ولكن سرعان ما تبيّن أنه أكثر من محق. ليس فقط لأن الفيلم وعنوانه «العودة»، كان من تحقيق سينمائي روسي شاب لم يكن قد سمع به أحد، نال يومها جائزة الأسد الذهبي، في البندقية، بل لأن كل أفلام زفياغنتسيف التالية، بررت حماسة المندوب. لقد ولد يومها سينمائي كبير. ولكن ولدت أيضاً سينما تطرح أسئلة مجتمع ما- بعد- الحداثة الروسية.

منذ ذلك الحين، وعاماً بعد عام، كما كانت حال تشيخوف قبل قرن ونيّف، لا يتوقف صاحب «العودة» عن رصد مجتمع بلاده. لا يتوقف، وفي شكل يفوق تشيخوف في عنفه وتوجيهه أصابع الاتهام لكل ما ومن يصنع راهن المجتمع الروسي، عن محاسبة الواقع الراهن مصوراً شتى جوانبه ومآسيه في سينما لعل أقل ما توصف به أنها «سينما كئيبة». لكنها كئيبة لأن الروس اليوم باتوا بالضرورة شعباً تستبد به الكآبة. وهو الأمر الذي يؤكده زفياغنتسيف في فيلمه الأجدّ «بلا حبّ» الذي، منذ عرضه في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» قبل أسابيع، كان المنافس الرئيسي على السعفة الذهبية ليكتفي في النهاية بجائزة المحكمين الخاصة.

 

القراءة من العنوان

ومن الواضح أن عنوان الفيلم نفسه يمكن أن يشكل برنامجاً بأسره، بل يمكن أن يكون عنوان سينما زفياغنتسيف كلها. فهذه السينما تأتي لتقول لنا إنه إذا كانت السعادة غائبة،- حتى ولو بصورتها الستالينية المزيفة-، عن الواقع الروسي اليوم، فما هذا إلا لأن الحب نفسه بات من الذكريات البعيدة. ففي أفلام زفياغنتسيف ليس ثمة مكان لأي حب أو حكايات غرامية. هناك علاقات بالتأكيد وهناك ارتباطات... وربما هناك خصوصاً، علاقات سابقة. لكنها اختفت الآن وحل مكانها واقع مرير إن لم نقل واقع كراهية يتساءل الناس دائماً كيف تسرّب إلى حياتهم. فمن الزوج/ الأب العائد من اللامكان ليستعيد حياته الزوجية والأبوية التي ستبدو استعادتها مستحيلة في «العودة» بل ستبدو قاتلة في النهاية، إلى الزوجين اللذين يعيشان حالة انفصال في «بلا حب» تدفع ابنهما الطفل إلى ذلك الاختفاء المريع الذي يشكل موضوع الفيلم الأخير، مروراً بفيلم «العقاب» (2007) حيث يعاقب الزوج زوجته دافعاً إياها إلى الانتحار إذ تخبره أنها حامل من جديد فيعتقد هو بناء على حسابات مغلوطة وملحوظة من أخيه أن الحمل ليس منه، وما يحدث في فيلم «إيلينا» (2001) بين تلك المرأة الممرضة التي تزوجت ثرياً كانت تعرفت إليه قبل عشر سنوات في المستشفى، لكنها الآن تقتله لأنه يرفض أن يكتب أي إرث لابنها من زوجها الأول ما يجعلها ترث نصف ثروته، ومروراً أخيراً خصوصاً بفيلم «ليفياتان» الذي كان إحدى التحف الأساسية في دورة عام 2014 لمهرجان كان السينمائي ولسوف يفوز لاحقاً بعشرات الجوائز ومن بينها جائزة أفضل فيلم أجنبي في جوائز الغولدن غلوب، كما في بريطانيا... في هذا الفيلم صوّر زفياغنتسيف الدولة تحت ملامح ذلك التنين الهائل الذي تحدث عنه الفيلسوف الإنكليزي هوبس في كتابه الكلاسيكي، تلك الدولة التي اتخذت في الفيلم شكل آلة تدمير ضخمة تبدأ في اللقطات الأخيرة من الفيلم نسف المنزل الذي كان بطل الفيلم يسعى إلى إنقاذه من براثن التنين. لقد قال الفيلم إن ذلك الإنقاذ بات مستحيلاً. ففي روسيا اليوم، كما في غيرها ليس ثمة نهايات سعيدة. تماماً كما أن الحب لم يعد له مكان. ففي «العودة» ينتهي الأمر بقتل الولدين أباهما في محاولة منهما لإنقاذ الأم من براثنه... البراثن التي قد لا تكون أكثر من وجوده في حياتها بعد أن سوّت أمورها لتعيش من دونه. وفي «إيلينا»، لن تحصل هذه على ما تعتبره حقها من ثروة زوجها الجديد إلا بإزاحته أي بقتله. وفي «العقاب» لن يحصل الزوج الذي خُيّل إليه أنه قد خُدع على راحة باله، إلا بدفع زوجته إلى الانتحار والانتقام من صديقه الذي خيّل إليه أنه أقام علاقة مع زوجته أدت إلى حملها. وفي «ليفياتان» ليس ثمة أي أمل إلا في اللجوء إلى الخيال على شاطئ بحر كان المطلوب الحفاظ على البيت المجاور له والذي راح ضحية للمضاربات العقارية...

والحقيقة أن هذا التشاؤم الذي يعود دائماً وإن بأشكال تتفاوت في درجة سوداويتها في سينما زفياغنتسيف، هو الموضوع الأساس لفيلم «بلا حبّ». إذ هل يمكننا أن نجد صورة أكثر سواداً في السينما المعاصرة من صورة طفل يدرك أن أبويه على وشك أن ينفصلا لأن استحالة مواصلة العيش بينهما تضعهما على مفترق طريق، لكنهما في الوقت نفسه لا يعبآ بمصير الطفل ولا يتناقشا حتى بأي شيء يتعلق به، وكأن كل واحد منهما إذ خطط لنفسه نمطاً مختلفاً من الحياة مع شريك جديد، يعرف تماماً أن لا مكان لهذا الطفل في نمط حياته الجديد هذا.

في الحقيقة أن آندريه زفياغنتسيف أوصل الكآبة، الواقعية في روسيا اليوم على أية حال، إلى مستويات من الصعب على أي عمل فني آخر أن يصل إليها، ومن هنا يمكن النظر الى فيلميه الأخيرين، «بلا حبّ» ومن قبله «ليفياتان» على انهما الصورة الأقسى والأعنف التي تصلنا من ذلك الداخل الروسي الذي، حين انتفض إنسانه قبل ربع قرن للوصول إلى التغيير، لم يكن ليتصور أبداً أن التغيير سوف يقوده هنا إلى عالم يسيطر التنين عليه ليجعل الجريمة وحدها مفتاح السعادة فيه، ويكتشف أنه بات في مجتمع لا حبّ فيه ولا حنان!


أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024