منذ 7 سنوات | لبنان / السفير


لا يليق «الصيت الكبير» لإبراهيم بركات بالصّوت الرقيق الذي يخرج من فمه والذي يكاد لا يُمكن سماعه، داخل قاعة المحكمة العسكريّة. إلى هنا، أتى الرجل الثلاثيني عشرات المرّات.

ومع ذلك، لم يتسنّ لأبي بكر أن يتقدّم نحو قوس «العسكريّة» منذ توقيفه في أيّار 2015. جلّ ما كان يفعله وهو يمسك بقضبان قفص المحكمة بأن يرسم ابتسامة خفيفة أو ملامح تعجّب أو هزّا بالرأس حينما يسمع الموقوفين المتّهمين يتّحدثون عنه.

منذ أسابيع قليلة، وعد بركات رئيس «العسكريّة» العميد الرّكن الطيّار خليل ابراهيم بأنّه سيقول الحقيقة، «لأنني لستُ كما تعتقد، وإن كنتُ ارتكبت الكثير من الأخطاء».

وكما وعد، وفى. بخطوات بطيئة، تقدّم الرّجل نحو المذياع المثبت في وسط القاعة. كان يتقصّد البطء في الحركة، علّه ينهي الأذكار التي يتمتم بها. «أحييكم بتحيّة الإسلام، وهي السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته».. بهذه الكلمات قرّر بركات أن يفتتح جلسة استجوابه الأولى لشيخٍ نحيف يرتدي عباءة بيضاء وتحتها بنطال أبيض يغطّي جزءاً من حذائه الرياضي. غزا الشيب نصف لحيته الكثّة لتكون العلامة الفارقة في وجهه.

أصرّ الرّجل طوال الجلسة على أن يظهر بالصّورة التي يودّ إقناع هيئة «العسكريّة» بها: «أنا رجل خيّر ومعطاء، كسوْت مئات اليتامى وأفرحتهم. أنا رجل إنسانيّ يسعى الى خير النّاس المقطوعين من شجرة. كان حلمي افتتاح مسجد..».

على هذا المنوال، استمرّ بركات في إجاباته. إن سُئل عن الطلقة الأوّلى التي استهدفت الجيش اللبنانيّ في التبّانة أو عن انتمائه الى التنظيمات الإرهابيّة، يحوّر الإجابة ليلبسها «طابعاً خيرياً»!

المتّهم بأنّه الأمير الشرعي لإحدى خلايا «داعش» في طرابلس وأنّه التقى القياديّ في «داعش» والمتحدّث الرسمي باسمه أبو محمّد العدناني وبايعه، وأنّه كان من بين المطّلعين على خطّة «داعش» وتحرّكاتها لإعلان «الإمارة الإسلاميّة» بالتّعاون مع أحمد سليم ميقاتي، يحاول أن يتنصّل من كلّ هذه التّهم.

لم يعتمد النّفي فحسب، بل ركّز على صوته وطريقة كلامه وحركة يديه وعمله الخيري ودراسته للشريعة والاستناد الى آيات قرآنيّة في كلامه. لذلك، رسم طوال فترة استجوابه ابتسامةً خفيفة على فمه مع نظرات تقترب إلى «الملائكيّة» متحدّثاً بصوتٍ منخفض، حتّى أنّه اعتمد وضع يده على قلبه وهو يتحدّث لمحاكاة رسم «صورة الملاك»، إلى أن علق العميد ابراهيم، رداً على نفيه لكلّ التّهم الموجّهة إليه، بالقول ضاحكاً: «إنت قدّيس».

كان كلّما واجهه ابراهيم بدليلٍ أنّه ارتكب جرماً، يعمد بركات إلى وضع وجهه أرضاً، والإجابة بـ «نعم أنا أخطأت» أو «لم يكن عليّ فعل ذلك» أو «وقعت بأخطاء أدفع ثمنها الآن»... حتّى أنهى الاستجواب بـ «أنّني نادم أشدّ النّدم، وأنا سأصلح الخطأ».

ومنذ البداية، استند الى الشريعة وأفكاره العقائديّة لنقض التّهم، فأكّد أنّ البيعة «محصورة بالنبيّ محمّد، وهي غير قائمة شرعياً وباطلة. تستخدم اليوم بهدف التّرويج لحزب أو تنظيم». ولإثبات ما نطق به، أشار الشاب إلى «أنني درستُ الشريعة ولديّ شهادة بذلك»، لافتاً الانتباه إلى أنّه لم يحمل السّلاح وهو أصلاً حرّم استخدامه لعدم قتل الأبرياء.

سريعاً، عاد أبو بكر إلى جلباب دار الفتوى وتحديداً مفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشعار، ليقول: «أنا ألتزم بتوجيهات الشعار بتوحيد خطبة الجمعة ومتقيّد بتوجيهات دار الفتوى»، مضيفاً: «تاريخي يثبت أنني ضدّ فكر داعش وأي فكرٍ إرهابي ومتطرّف يستيبح النّاس من دون وجه حقّ».

لا تكمن أهميّة بركات بـ «صيته» وكونه أحد أئمّة المساجد في طرابلس، بل بالأموال التي تمكّن من تأمينها لافتتاح جمعيّة ترعى عدداً من الأيتام ومركزاً لتدريس القرآن وتقديم العون للعديد من الأشخاص عبر الحصص الغذائيّة والألبسة (تصل أحياناً إلى حوالي الـ9 آلاف شخص) والرحلات الترفيهيّة.

من أين لكَ هذا؟

يجيب الموقوف أنّ المموّل كان (م. ب) وهو فاعل خير من أستراليا (يعرف بأنّه شيخ سلفيّ) ويملك جمعيّة مماثلة هناك.

أمّا عن ذهابه إلى تركيا ودخوله إلى سوريا، فللرّجل رواية ناقض نفسه في تفاصيلها، حتّى ارتبك وصار يفرك يديه بعضهما ببعض من دون أن يتمّكن من تقديم إجابة مقنعة لشيخ ذهب إلى تركيا حاملاً 20 ألف دولار كي يشتري الثياب، وعاد بعد 13 يوماً من دون ثياب، بل بـ «غلّة»: لقائه قيادات في «داعش»!

«هل ذهبت إلى تقسيم؟ هل ذهبت إلى «الغراند بازار»؟ ارتبك بركات وهو يسمع كلّ هذه الأسماء تخرج من فم العميد ابراهيم وهو لم يسمع بها سابقاً. ضاع وهو ينفي، قبل أن يتذكّر اسم محلّ واحد قصده لشراء الثياب وهو «مراد»، ليجيبه ابراهيم ضاحكاً: «نصف الأتراك اسمهم مراد».

أصرّ بركات على أنّ مرافقته لمحمّد الأيوبي (موقوف حالياً في الملفّ نفسه ومتّهم بأنّه الأمير العسكريّ لإحدى خلايا داعش) الذي طلب منه اللحاق به إلى الحدود التركيّة ولقاءهما بأحد قيادات «داعش» المعروف بـ «أبو الوليد السعودي» في جرابلس، كان «خطأ» منه. ولفت الانتباه إلى أنّه لم يكن على علم بأنّ الرّجل ينتمي إلى «داعش» إلّا حينما صار يتحدّث عن نفسه، خصوصاً أن الأيوبي قال له إنه صديقه وأصيب أثناء قتاله إلى جانب «الجيش السوريّ الحرّ» لتتمّ معالجته في لبنان، حيث تعرّف عليه.

ما قاله الموقوفان في إفادتهما الأوليّة بأنّهما ذهبا إلى الرقّة حيث التقيا العدناني وبايعاه على السّمع والطّاعة قبل أن يعطيهما 30 ألف دولار مقابل إنشاء خليّة تابعة لـ «داعش» مهمّتها السيّطرة على طرابلس والتخطيط لإعلان الإمارة بعد أن يحدّد أحمد ميقاتي ساعة الصّفر، نفاه بركات.

وكما أخطأ في الذهاب مع الأيوبي، وفق ما قال، أشار بركات أيضاً إلى أنّه أخطأ «عندما تغلّب عليّ الخوف بعدما علمت بأمر توقيف الأيوبي واتهامي بالانتماء إلى داعش». الرّجل الملتزم بتعليمات دار الفتوى، سارع إلى الفرار نحو باب التبّانة، طالباً من أحد المقربين من أسامة منصور تأمين منزل له.

في إفادته الأوليّة، يروي الكثير من التّفاصيل عن معركة باب التبانة وعن الطلقة الأولى التي أطلقها باتجاه الجيش بعدما تمركز إلى جانب «مسجد حربا» واتّصل بمجموعته لتلحق به وتأتي بالسّلاح الذي خبأه في الجمعيّة التي كان يملكها عبر «فان» وتشارك في المعارك إلى جانبه.

ينكر بركات كلّ هذه الرواية، برغم تأكيده أنّه يملك «فان»، نافياً أيضاً أن يكون «أميراً»، فـ «هذه التّهمة يرفضها العقل والواقع. أنا أنتمي إلى الإسلام فقط»!

وكما أخطأ في الذهاب إلى باب التبانة، وفق ما يقول، عاد «أبو بركات» ليرتكب الخطأ نفسه: أوجد لنفسه هويّة مزوّرة وتوجّه نحو مرفأ طرابلس للذهاب إلى تركيا.

ربّما كان الشيخ الطرابلسي بصدد التحضير لـ «خطأ» جديد، إلا أنّ الوقت لم يساعده، إذ إنّه وقع في قبضة الأمن العام.

أمس، لم ينته الاستجواب مع أحد المتهمين «الدسمين» بالانتماء لـ «داعش»، ففضّل ابراهيم استكماله في جلسة لاحقة في 17 تشرين الأوّل المقبل.


أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024