يَصْعُبُ في الزمنِ اللبناني الصعب أن تكون علي حسن خليل، الاسمُ الذي تحوّل «علامةً فارقةً» في بيروت التي تُعانِد في أيامِها السود التفريطَ بـ«قرْشها الأبيض»... فالرجلُ الصاعدُ من صفوف «المحرومين» يدير اليوم وببراعةٍ مشهودةٍ معركةَ الدفاعِ عن «الرمقِ الأخيرِ» لدولةٍ يستظلّها الجميعُ بعدما تَكاتَفَتْ الأزماتُ المتواليةُ على إفقارها وجعْلها في حفرةٍ اقتصادية - مالية بلا قعْر.

لم يكن وزيرُ المال علي حسن خليل يحتاج تقاريرَ مؤسسات التصنيف الدولية لإبرازِ لوحةِ الأخطار المالية التي تحوط البلادَ التي تعوّدت إهدارَ الوقتِ وتفويتَ الفرص. فـ«أمينُ الخزينةِ» غالباً ما كَسَرَ الصمتَ حين كانت تحذيراتُه وبـ«مكبّراتِ الصوتِ» أقرب ما تكون إلى الضربِ على الطاولة، فيما سواه يديرون الأذن الطرشاء ويلْهون بمعارك سياسية تهزّ الاستقرار و... الثقة.

وزيرُ «الوزارات»، القابِض على التوقيعِ الثالث في الجمهورية (إلى جانب رئيسيْ الجمهورية والحكومة)، شكّل «مفاجأةً» في الحياة السياسية اللبنانية. فالشابُ الجنوبي الذي تَدَرَّجَ صعوداً نحو «الحقوق» في بيروت، التي تُفاخِرُ بأنها كانت «أمّ الشرائع»، خاضَ تجربةً حزبيةً في كَنَفِ حركة «أمل» التي تَولّى فيها مسؤولياتٍ جَعَلَتْهُ أشبه بـ«ظلِّ» زعيمها رئيس البرلمان نبيه بري، الذي اختارَه مُعاوِناً سياسياً له ومُعيناً داخل الحُكْم، «نائباً» دائماً منذ العام 1995، ووزيراً للزراعة فالصحّة ومن ثم المال.

ربما يحتلّ خليل اليوم الموقعَ الأكثر حساسية في لبنان، الذي يئنّ تحت وطأةِ أزمةٍ اقتصادية - مالية، قد تكون الأسوأ في تاريخه، ما أملى استفاقةً متأخّرةً لأركان الحُكْم الذين تَداعوا أخيراً لإعلان حال طوارئ تَجَنُّباً لـ«الطوفان» الذي قاوَمه وزير المالية بـ«عُدّة شغْله» ونبّه مراراً وتكراراً من فقدان الكوابح وتَآكُلها، والانزلاق تالياً نحو أوضاع أكثر استعصاء وصعوبة.

في نوفمبر 2018، وفي موقفٍ بدا صادِماً، قَرَعَ الوزير علي حسن خليل جرسَ الانذارِ حين قال خلال جلسةٍ لمجلس النواب «إن الخزينةَ خاويةٌ وما في أيّ ليرة»... ولكن لا حياة لمَن تنادي ولا حياء، فمرّ الكلامُ مرورَ الكرامِ وتحت جنْح الصراعِ البالغِ الكلفةِ يومَها على تشكيلِ حكومةٍ استهلكتْ تسعة أشهر «ثمينة» من عُمْرِ الواقعِ الاقتصادي - المالي المترنّح والمُتَداعي.

لا يهوى الوزيرُ الشيعي رقم واحد في الدولة البروباغندا. ورغم أنه يُمْضي الوقت في وزارته يُعِدُّ موازناتِ كادتْ أن تتحوّل «عملةً نادرةً» في «جمهوريةِ التعطيل» على مدى أعوام، فإنه شعر يوماً بأنه «صار الوقت» لهزّ التركيبة الغامضة و«العميقة» حين أطلّ مع الإعلامي اللامع مارسيل غانم في برنامجه على «M.T.V»، فبدا هذا الوزير الواثق وكأنه مُغامِرٌ في تصويبه على مَغاور الفساد والهدر.

وما زال حتى الآن يتردّد صدى جرأته في تفجيره واحدة من أكثر القضايا حساسية تحت قبة البرلمان حين لوّح بـ«ورقةٍ» عليها أسماء نحو 124 معبراً غير شرعي، اسماً اسماً، على الحدود اللبنانية - السورية «متخصصة» في التهريب، متسائلاً عمن يرعى هذه الظاهرة التي تتسبّب بـ«تَحَلُّلِ» الدولة وتحرم الماليةَ العامة المأزومة من إيراداتها.

ورغم طِباعه الهادئة وأخلاقه الدمثة ودوره «الإطفأجي» المُسْتَمَدّ من السلوك الذي أرساه الرئيس بري، آخِر العنقود من حرّاس «البيت اللبناني»، فإن علي حسن خليل في مهامه الوزارية لا يُساوِمُ ولا يغطّي ولا يُجامِل، لا الأقربين ولا الأبعدين... هكذا كانت تجربته في وزارة الصحة مع ملفات الفساد، وهكذا هو الآن حين صارتْ «صحّةُ» المالية العامة بين يديْه.

وأكثر ما دلّتْ عليه أدوارُ الوزير خليل أنه «بيحسبها صحّ» في المال والسياسة... فها هو دائم الحضور على «الخطّ الساحن» مع وكالات التصنيف والمؤسسات المالية الدولية، يُحاوِرُ، يُقاوِمُ، يُطَمْئنُ، يُفاوِضُ، كما هو دائم الحركة على الخط البارد في السياسة، يُناقِشُ، يُدَوْزِنُ، يُهَنْدِسُ التوافقاتِ ويُهَدّئ، فمَن بين يديه «كرة النار» يُدْرِكُ أن البلادَ تحتاج لسكْب الكثير من المياه الباردة على صراعاتها العبثيّة.

«كرةُ النارِ» التي صارتْ عنواناً للمأزق المالي - الاقتصادي لم تتدحْرج لأن لبنان مصابٌ بعطبٍ في موارده البنيوية بقدر ما أن السياسة في الزمن البائس تحوّلت خنجراً ينْحر مقدّرات البلاد ويستنزف استقرارَها والبنيةَ الحاضنةَ للاستثمارات فيها. ولم يكن أكثر دلالة على هذه الخلاصة من الحقيقة الموجعة التي كشف عنها أخيراً الخبير الاقتصادي «الموضوعي» الدكتور غازي وزني عندما قال إن أزمة الأربعين يوماً التي نجمتْ عن حادثة البساتين - عاليه رتّبت خسائر للاقتصاد بحجم عام كامل.

مسؤولو الدول العربية المانحة والمقرضة ومديرو الصناديق يثقون بعروضه وتقييماته ويعتبرون ان واقعيته في الشرح والتفصيل وتقديرات النتائج ضمانة لأي مبادرة يقومون بها، أما المسؤولون الدوليون المعنيون بقطاعات المال والاستثمار فيبدون «ارتياحا» نادرا كلما انهوا اجتماعا معه.

ابن الخيام وما ادراك ما الخيام، القادم من ألم الناس ناثرا احلامهم على مساحة وطن، الكاره للحرمان بالوراثة، الناهل من مناهج مدرسة الإمام موسى الصدر العابرة للطوائف والجامعة لها في الوقت نفسه على قاعدة التنمية الاجتماعية والاقتصادية... لا يحرس خزينة وطن فحسب بل يحارب من أجل بقاء وطن.


أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024