منذ 7 سنوات | لبنان / وكالة وطنية

وجه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان رسالة بمناسبة أول ايام السنة الهجرية الجديدة الاتي نصها: "الحمد لله النافذ أمره، الدائم إحسانه، الشديد بطشه وقهره، الواجب حمده وشكره، لا يرجى إلا نفعه، ولا يخشى إلا ضره، فتبارك اسمه، وجل ذكره، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثنى عليه، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في محكم كتابه العزيز: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه الذي أوذي في الله فصبر، وهاجر في سبيل الله فظفر وانتصر، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، الذين هاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون.

أما بعد:

فيقول المولى تعالى في محكم تنزيله: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم.

أيها المسلمون، أيها اللبنانيون:

تحل علينا ذكرى الهجرة النبوية هذا العام، كما في الأعوام القليلة السابقة، وأمتنا غارقة في الدماء والدموع. الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ما كانت زيارة ولا سياحة، بل أعباء ومشقة، كما هو شأن كل مغادرة للأوطان ومسقط الرأس، ومرابع الطفولة والشباب. فقد حاول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وطوال قرابة الثلاثة عشر عاما من دعوته بمكة، أن يبشر بني قومه وينذرهم فما آمن معه إلا قليل. بيد أن هذا الإعراض، ما اقتصر على عدم الإيمان والاتباع. بل إن سادة قريش عمدوا إلى اضطهاد أولئك الذين أصغوا إلى دعوة الحق. وما تزال صرخات سمية وبلال وعمار تحت التعذيب، ماضية عبر الزمان، ويشير إلى ذاك الثبات الذي يهبه الإيمان، وتلك الطمأنينة الوادعة، التي ينفخ في جنباتها اليقين بوعد الله للمؤمنين الصادقين، ووعيده للجبارين والمتكبرين. قال صلوات الله وسلامه عليه، وقد حاولوا إغراءه بعد الوعيد (والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما فعلت) فتعالت قريش على بني عبد المطلب وعزلتهم، وحاصرتهم في الشعب ثلاث سنين، حتى أكلوا ورق الشجر، وما ذلوا ولا استكانوا. ثم أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم من المؤمنين، بالهجرة إلى الحبشة، وقال لهم: (إن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد). وخشيت قريش أن تنتشر الدعوة بهذه الطريقة خارج مكة، فأرسلت رسلها إلى النجاشي ملك الحبشة المسيحي، ليطرد المسلمين من عنده وقد زعم رسولا قريش أن هؤلاء اللاجئين عنده والطالبين الحماية والعيش موقتا في جواره، هم ضد دعوة عيسى عليه السلام، فقرأ جعفر بن أبي طالب، ابن عم النبي على الملك صدرا من سورة مريم، فتأثر النجاشي وقال: (إن هذا، وما أتى به عيسى، ليخرج من مشكاة واحدة). وأبى أن يطرد الآتين إليه هربا من الاضطهاد بسبب إيمانهم.

ثم انطلق رسول الله بصحبة أبي بكر، يقصد العرب في مواسمهم، فيدعوهم إلى مائدة الحق والصدق. ومضى إلى الطائف، فلم يأبه له وجهاؤها، لأنهم كانوا يعرفون من قريش أن محمدا ليس ملكا ولا جبارا، وإنما هو ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة، وتبعه سفهاؤهم وغلمانهم يسخرون منه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف، وذكر استغاثته المشهورة بوجه الله الذي أضاءت له السموات والأرض، أن لا يكله إلى العدو أو الشانئ، وقال: (إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي)".


اضاف: "هذه أطراف مما عاناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سنوات دعوته الأولى. ولذلك فقد رجا عليه الصلاة والسلام، أن يجد في الهجرة إلى يثرب فرجا ومخرجا. لقد كان بين خيارين أحلاهما مر: أن يبقى بمكة مع الذين آمنوا بدعوته، متحملين سفاهة السفهاء، وشماتة الأعداء - أو أن يخرج من وطنه من أجل الدعوة والفرص الأفضل لنجاحها. وقد رأى أن تلك الفرص ممكنة، بعد التقائه بجماعات من أهل يثرب، دعاهم إلى الإيمان فاستجابوا، ودعوه إلى بلدتهم. فخرج عليه الصلاة والسلام إلى يثرب سرا، يصحبه أبو بكر الصديق، بعد أن كان قد طلب من أصحابه خلال عام أن يخرجوا قبله متفرقين، حتى لا تردهم قريش.

لقد تحمل عليه الصلاة والسلام مشقات مغادرة البيت الوادع، والحرم الذي نشأ على الطواف به ومن حوله. وفي كل ذلك مسؤوليات هائلة، لكنها هانت عليه وعلى مئات المؤمنين، من أجل صون إيمانهم، وفتح آفاق أخرى للدعوة والدين.

في يثرب التي سماها رسول الله (المدينة) بدأ تاريخ جديد للإسلام الذي غير العالم. فبالهجرة، بدأ المسلمون في زمن عمر بن الخطاب يؤرخون. وفي الهجرة، أو دار الهجرة، تأسست الأمة، وقامت الدولة، وعاد المسلمون بعد ست سنوات فقط إلى مكة فاتحين. وفي هذا كله، درس في الثبات والإثبات، وأن الله سبحانه وتعالى ينجز وعده، ويحقق عهده، وأن الإيمان يصنع الكثير من الإنجازات، وأن الله عز وجل، لا يضيع أجر من أحسن عملا".


وتابع: "الهجرة غير التهجير، بل هي نقيضه. فصحيح أن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه، كان يفضل البقاء بمكة، لكنه عندما خرج فلكي يبحث عن مستقبل آخر لدعوته، بعد أن انسدت عليها السبل. وقد قال صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الصحيح: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه).

أيها العرب ، أيها المسلمون ، أيها اللبنانيون:

إن ما يحدث في بلدان عربية ، من حصار وقتل وتجويع، للإرغام على ترك الأرض والوطن، فهو تهجير يأباه الحق وتأباه المواطنة، وتأباه إنسانية الإنسان. وقد وضع لنا القرآن الكريم قاعدة لا ينبغي المساس بها، ولا إنكارها، عندما طلب منا أن نتعامل مع سائر بني البشر بالبر والقسط، إلا إذا قوتلنا في ديننا أو في ديارنا ؛ فقال عز وجل: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين . [الممتحنة : 8] ".


واردف: "إن الإخراج من الديار، هو العمل الشائن الذي فعله ويفعله الصهاينة في فلسطين، ولا ينبغي أن يتكرر في ديارنا، وعلى ديارنا في سورية والعراق، وغير سورية والعراق. إننا بذلك نخرب بيوتنا بأيدينا، ونسلط الدول الكبرى والأخرى في الإقليم، على مصائرنا ونفوسنا وحيوات أطفالنا. إذ كيف يصير الإنسان في بعض بلداننا العربية، مخيرا بين التجويع والقتل من جهة، أو التهجير من جهة أخرى. إن ما يحدث في حلب الآن، وحدث ويحدث في عشرات المدن والبلدات، أمور يأباها العقل والدين والضمير، وإنسانية الإنسان. الآية القرآنية السالفة الذكر في الإخراج من الديار، تتبعها آية أخرى تقرر: إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون. [الممتحنة : 9]

نعم ، ينبغي أن تكون هناك مقاييس دينية ووطنية وقومية وإنسانية، للتعامل بين المواطنين، وبين بني البشر، ولا أقل من أن ننكر أشد الإنكار القتل والتهجير. ومن لم يستطع الإنكار باليد، فليفعل ذلك باللسان أو بالقلب، كما جاء في الحديث الشريف. والإنكار القلبي، يتمثل في عدم الولاء أو التحالف مع القتلة والمهجرين، أو التظاهر باستحسان أفعالهم، أو الدفاع عنها بذرائع أوهى من خيط العنكبوت. ما ذنب الأطفال والنساء والشيوخ؟ ولماذا يجوع الناس ويقتلون؟ اللهم إننا ننكر ذلك ولا نوافق عليه، ولا نرضاه لا باللسان ولا بالقلب".


وقال دريان: "في عاشوراء انتصر الدم على السيف، وفي سورية وغيرها، سينتصر الدم المسفوك، والطفل البريء المقتول، على الذين قتلوه بالطائرات والمدافع، والحصار والتجويع.

أيها المسلمون، أيها اللبنانيون:

وتأتي ذكرى الهجرة، مثلما أتت مناسبات كثيرة، وهناك جرائم كبرى ترتكب في حق وطننا ودولتنا. لماذا يمضي عامان ونصف العام، ولا رئيس للدولة، ولا عمل لمجلس النواب، والحكومة تتعطل ؟ ويقال لنا: إن التصعيد قادم. فلماذا هذا كله؟ ولماذا هذا الاستنفار للعصبيات والطائفيات، وسائر أنواع الكراهية؟ وأين هم النواب المنتخبون؟ ولماذا لا يأتون إلى مجلس النواب لانتخاب رئيس؟ أتريدون أن تصبح الحال في لبنان، مثل الحال في بعض دول المنطقة ؟ ولأي هدف وغاية؟

لبنان، يمر بمرحلة حساسة ومصيرية، يسودها شيء من التفاؤل، ولا يمكن أن يستمر الحال كما هو، فالمشاورات والاتصالات التي أجراها ويجريها الرئيس سعد الحريري، هي فأل خير، ونأمل أن تثمر جولاته انفراجات في شتى الميادين، وفي طليعتها انتخاب رئيس للجمهورية، ونتمنى على القيادات الوطنية، دعم هذه الجهود التي تصب في مصلحة الوطن والمواطن، من تسوية وتوافق واتفاق، تنهي أزمة انتخاب رئيس للجمهورية، ليتم الانتخاب اليوم قبل الغد، لأن الوطن لا يحتمل مزيدا من الانتظار والتأخير، ونحذر من أية خطوة تزيد في تفتيت البناء اللبناني، بل يجب العمل معا من أجل وحدة الشعب، والسعي جاهدين لحلحلة القضايا المعقدة، لكي لا تنعكس آثارها السياسية على الشارع، الذي لا يحتمل أي خلل أمني أو اقتصادي. فالشعب كل الشعب، بانتظار كلمة الفصل، التي تزف بشرى الوصول إلى حلول، وإلا سلام على لبنان".


وتابع: "يا ساسة لبنان، كفى، جميعكم يريد حلا على طريقته، فلتوحد الرؤى، فلا يجوز بعد اليوم السكوت والتهاون بمصير الوطن. الجميع مسؤول، وإلا كلنا مشاركون في احتكار الوطنية كما يراها كل واحد منكم، علينا أن نكون أحرارا في خياراتنا وقراراتنا التي توافق مصلحة الوطن.

إننا نؤكد على ضرورة الوعي الكامل، كي لا ينزلق لبنان واللبنانيون في صراعات داخلية، تعود بالخراب على وطنهم. ونعرب عن قلقنا من جراء تعطيل اجتماعات مجلس الوزراء، وتعليق هيئة الحوار الوطني، فالحكومة مدعوة للانعقاد مهما كان السبب، والحوار الوطني، ينبغي أن يعاود جلساته تحت أي ظرف.

اليوم، نحن أمام معركة احتواء لما يجري على الساحة اللبنانية، من توحيد الصف، ولم الشمل، وليس توجيه الاتهامات يسارا ويمينا باتجاه بعضنا بعضا، علينا أن نسعى جميعا أن نكون يدا واحدة، مهما اختلفت توجهاتنا، فلبنان يستحق منا كل تضحية من أجل بقائه، ومن أجل أبنائه. ويستحق أن نحميه من العاصفة التي قد تجتاح كل شيء في المنطقة، إذا لم نكن يقظين، وعلى قدر المسؤولية التي الزمنا في أعناقنا.

أيها المسلمون أيها اللبنانيون:

إننا في ذكرى الهجرة المؤلمة، التي أنتجت خيرا كثيرا، نسألك اللهم يا من كتبت على نفسك الرحمة، أن تجعل لنا من أمرنا رشدا، وأن تجعل لنا فرجا ومخرجا، فقد أصيبت البلاد والعباد، وبدأ فقراؤنا يئنون تحت وطأة العوز والحاجة، ويوشك العالم أن يعرض عنا، ونعلن دولة فاشلة".


وختم دريان: "في ذكرى الهجرة، نسألك اللهم أن نظل في ديارنا آمنين، وأن تنظر يا أرحم الراحمين إلى عبادك في العراق وسورية ولبنان واليمن وليبيا، بعين العناية والرحمة.

ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا، وارحمنا أنت مولانا، فانصرنا على القوم الكافرين". 


أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024