مكسورٌ صوت فلسطين وسورية ولبنان اليوم، وحزينةٌ الناصرة تحاصرها «مرايا روح» المطربة والموسيقية الفلسطينية ريم بنّا التي رحلت عن 51 سنة. ملتويةٌ زهرات جبل مرج بن عامر قبالة شرفتها المزهوة بالورود في مدينتها التي أبت أن تتركها حتى النفس الأخير. وحيدٌ فنجان المريمية الذي اعتادت أن تشربه كل يوم في بيتها التراثي المفروش بالتطريز الفلسطيني.


رحلت المناضلة المدافعة عن الحق والحرية والأسرى، والتي تحدّت الاحتلال الإسرائيلي بصوتها وأغانيها وحفلاتها حول العالم، لكن صوتها باقٍ في قلوب من أحبوها وأحزنهم نبأ وفاتها مذ إعلانه في بلدتها الناصرة حيث سكنت وأولادها الثلاثة، بيلسان وقمران وأورسالم، من زواجها السابق بالفنان الأوكراني ليونيد ألكسيينكو.


لم ينل مرض السرطان من عزيمة ريم بنّا، فظلت تطل على جمهورها داخل فلسطين وخارجها، بحماستها المألوفة ونضالها، ولكن ليس عبر أغانيها الجميلة التي حال شللٌ في الأوتار الصوتية دون أدائها، بل عبر نصوص قصيرة كانت تكتبها على الإنترنت. ولم تقلق من أن تُلتقط لها صور برأسها الحليق نتيجة العلاج الكيماوي الذي خضعت له، وظلت ابتسامتها مشرقة، كما كتبت أمها الشاعرة زهيرة صباغ في وداعها: «رحلت، لكنها تركت لنا ابتسامتها التي تضيء وجهها الجميل وتبدد حلكة الفراق».


لم تستسلم حتى في اللحظات الأخيرة من انتشار المرض، وظلت تسجّل بوتر واحد صوتها شبه المشلول على مقطوعات موسيقية مأخوذة من نبضات قلبها، ونوتاتِ فحوصها الطبية الحقيقية، لتكون نواة ألبومها الوداعي التجريبي الذي يصدر في نيسان (أبريل) المقبل، وفق ما أعلنت قبل وفاتها. هي فكرة مبتكرة ولا سابق لها أن تحوّل فنانة في الرمق الأخير، أرقاماً ومعادلات طبية إلى نوتات موسيقية. وكتبت ريم حينها على «فايسبوك»: «بين سيفين، في غيبوبة التأمل، أتدرب على نهاية ساخرة... مع كل نَفَس وجع».


كانت ريم بنّا مطربة فلسطين بشعبها وتراثها، لكنها تخطت بصوتها الساحر وغنائها تخوم الجغرافيا، لترقى بقضيتها إلى مصاف القضايا الإنسانية الكبرى، جاعلة من فلسطين أيقونة غنائية ورمزاً جمالياً مضيئاً. هذه المطربة التي ولدت ونشأت في الناصرة، استيقظت باكراً على الشعر والفن، فأمها شاعرة ومناضلة، وأبوها انخرط في النضال أيضاً، وكان عليها أن تكتشف باكراً موهبتها في العاشرة من عمرها، فتعمل على بلورتها مدركة أنها ستغني فلسطين بأجمل ما يمكن. إلا أن التزامها القضية لم يحل دون تعمقها في فن الغناء والموسيقى، فقرنت موهبتها الكبيرة بالدراسة الأكاديمية، وسافرت إلى موسكو لتدرس في أرقى معاهدها الموسيقية، المعهد العالي للموسيقى، طوال ست سنوات. ثم بدأت مسيرة حافلة وزاخرة بأغانٍ استعادت فيها روح التراث الفلسطيني والشامي. تركت ثروة فنية في 14 ألبوماً، أهمها «تجليات الوجد والثورة»، و «مرايا الروح» و «جفرا» و «دموعك يا أمي» و «الحلم» و «وحدها بتبقى القدس».


أسست ريم بنّا لأغنية فلسطينيّة حداثيّة، وهي اليوم تلقى أصداء عربيّة وعالميّة إيجابية، خصوصاً بين الشباب. فسرّ فنّها أشعار غير ملحّنة من التراث تُلحّنها بأسلوب حداثيّ، مسترشدة بالموسيقى الشعبيّة الفلسطينيّة والعربيّة وموسيقى الشعوب، من أجل أن تستمر هذه الأغاني والنصوص مع الأجيال المقبلة، للمحافظة على هذا الميراث وتعزيز الانتماء القومي.


ومن أبرز الأنماط الغنائيّة التي انفردت بتقديمها، التهاليل التراثيّة الفلسطينيّة التي التصقت باسمها. كما لحّنت قصائد لكبار الشعراء العرب، مثل توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وماجد أبو غوش، وأيضاً قصائد صوفية لابن الفارض ورابعة العدوية وابن عربي وآخرين.


خصصت للأطفال حيّزاً من مسيرتها الفنية، وأهدتهم ثلاثة ألبومات هي «قمر أبو ليلة» و «مكاغاة» و «نوار نيسان». ويحفظ عدد كبير من الأطفال العرب أغانيها المحببة باللهجة الفلسطينية التي تؤديها بروح طفلة مشاكسة حالمة لا يتسع لها الكون. فهي كانت تعلم جيداً أن النضال بالموسيقى والغناء للأطفال تحديداً، هو الصدى والصوت الذي لا يموت أبداً. كانت ريم بنّا سبّاقة لإحياء أمسيات افتراضية عبر «سكايب» من بيتها في الناصرة مع مدن دمشق وبيروت وغزة المحاصرة، بسبب منع الاحتلال لها من السفر. لكنها تحدّت الاحتلال وزارت «بيروت الحلم» كما كانت تردّد، وغنّت فيها وجالت في شوارعها، والتقت أبناء بلدها في مخيم شاتيلا للاجئين.


في أيامها الأخيرة كتبت مودّعة: «لا تخافوا، هذا الجسد كقميص رثّ لا يدوم. حين أخلعه سأهرب من بيت الورد المسجى في الصندوق وأترك الجنازة... وسأجري كغزالة إلى بيتي... وأنتظر عودتكم في الشرفة كالعادة، وأقول: هذه الحياة جميلة، والموت كالتاريخ فصل مزيّف».




أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024