انتهى الوجود المسلح في مدينة حلب بشكل نهائي، واُعلِنت المدينة التي عانت من ويلات حرب فُرضت عليها منذ أكثر من أربعة أعوام مدينة محررة. المسلحون تركوا خلفهم قبل خروجهم دماراً كبيراً، وشوارع يسكنها الموت والجوع، لكن عاصمة الشمال بدأت تنفض عنها غبار هذه المآسي لتبدأ رحلة النهوض من جديد.
ثلاثة أسابيع تقريباً كانت كافية لتنهي الوجود المسلح من كامل المدينة، تشكيلات المسلحين بمختلف راياتهم وتبعياتهم سيخرجون تدريجيا بسلاحهم الخفيف نحو ريفي حلب الغربي والشمالي، بعدما حُشروا في زاوية صغيرة لا تتجاوز مساحتها الأربعة كيلومترات مربعة.
قبل بدء عملية الجيش السوري لتحرير أحياء حلب الشرقية، منحت دمشق وموسكو عشرات الفرص للمسلحين المحاصرين في تلك الأحياء حتى يخرجوا، بعد تشكيل طوق عسكري عَزَلهم عن الريف الشمالي المفتوح على تركيا، حينها رفض المسلحون الخروج، لتبدأ بعدها حملة عسكرية واسعة سقطت على إثرها الأحياء التي كانت في قبضتهم تباعاً، وبشكل فاق تصورات قيادة العمليات العسكرية.
المحادثات المطولة التي عقدت بين روسيا من جهة ودول عدة أبرزها تركيا والولايات المتحدة وبريطانيا من جهة أخرى، انتهت بالسماح للمسلحين بالخروج من المدينة على دفعات، ولإن أصرَّت موسكو على متابعة العمل العسكري حتى استسلام المقاتلين، خصوصاً مسلحي «جبهة النصرة»، إلا أن المفاوضات السياسية خفّضت من سقف المطالب الروسية، لتكون خاتمة تلك المحادثات خروج مذلّ لمسلحين استباحوا الشهباء وعاثوا في تاريخها فساداً.
المندوب الروسي الدائم في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين قال خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي مساء أمس، إن عملية الجيش السوري المدعومة من روسيا في حلب انتهت باستعادة القوات الحكومية للسيطرة على الأحياء الشرقية للمدينة، موضحاً أن «كل المتشددين ومعهم أفراد أسرهم والمصابين يخرجون حاليا من ممرات متفق عليها إلى وجهات اختاروها بأنفسهم طواعية».
بدورها، طالبت المندوبة الاميركية لدى الامم المتحدة سامنثا باور بنشر «مراقبين دوليين حياديين» في حلب للإشراف على اجلاء المدنيين بـ «أمان تام». أما الأمم المتحدة، وفي اشارة الى الاتفاق المعلن عن عملية الاجلاء، أوضحت أنها «تدعم هذه الجهود وانها مستعدة للمساعدة في تطبيق مثل هذا الاتفاق والاشراف عليه».
المتحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر كريستا أرمسترونغ أكدت استعداد اللجنة للعمل كوسيط إنساني محايد في عملية الإجلاء، مضيفة: «إننا نعد خططا للطوارئ كي نتمكن من التحرك سريعا إذا لزم الأمر».
وفي هذا السياق، ذكر مصدر متابع لملف الاتفاق بأن عملية إخراج المسلحين التي اتفق عليها تتضمن ثلاث خطوات، الأولى إجلاء الجرحى، والثانية إخراج المسلحين إلى وجهتين ضمن خطوتين متلاحقتين، نحو منطقة الراشدين، ليتوزع المسلحون بعدها إلى ريفي حلب الغربي والشمالي.
مصدر مطلع على الملف التفاوضي، لفت خلال حديثه لـ «السفير» إلى ان موسكو أصرّت خلال الساعات الماضية على أن يسلم المسلحون أنفسهم أو يُقتلوا، بعدما رفضوا طيلة الأشهر الثلاثة الماضية الاستسلام، إلا أن ضغوطاً غربية رفيعة المستوى ساهمت بالسماح للمسلحين بالخروج.
وبحسب المصدر فإن معظم الدول التي شاركت في المباحثات كانت تطالب بشكل مباشر بإخراج أعضاء منظمة «القبعات البيضاء»، وعددهم 15 شخصاً ناشطاً في حلب، «لاعتبارات إنسانية»، وفق تلك الدول، لتنتهي المفاوضات في النهاية بموافقة كل من دمشق وموسكو على فتح ممر آمن لمن يود الخروج.
وترافقت الضغوط الدولية وارتفاع مستوى المباحثات مع حملة إعلامية عالمية شاركت فيها بعض المحطات الخليجية، حيث ادعت حدوث مجازر في الأحياء التي دخلها الجيش السوري، وهو أمر نفته المصادر الطبية والإنسانية والعسكرية السورية جملة وتفصيلاً.
بالنسبة لدمشق، لا فرق كبير بين خروج المسلحين أو استسلامهم، فالنتيجة واحدة «حلب خالية من الإرهاب» بحسب مصدر حكومي تحدث إلى «السفير»، موضحاً أنه «منذ البداية طرحنا فكرة خروج المسلحين، رفضوا الخروج فبدأنا العمل العسكري، وهاهم سيخرجون في النهاية».
وبالتوازي مع انتهاء الحرب في مدينة حلب، وعودتها بشكل كلي إلى كنف الدولة السورية، بدأت التحضيرات لمرحلة «ما بعد حلب»، وأشارت مصادر عسكرية إلى أن الأهم في الوقت الحالي العمل على محورين، الأول هو تأمين منطقة جمعية الزهراء والراشدين في الجهة الغربية للمدينة، والتقدم نحو مدينة الباب، وهو الملف الأكثر تعقيدا على الصعيدين العسكري والسياسي في ريف حلب الشرقي.
وأكد مصدر عسكري سوري أن قوات الجيش السوري بدأت قصف قرية دير حافر بالفعل، من دون اي تقدم راجل حتى الآن.
ومع سيطرة الجيش السوري على كامل حلب، بدأ الحديث يدور حول إعادة إعمار ما تهدم، غير أنه لم يرد أي رقم رسمي حول نسبة الدمار أو التكلفة التقريبية الفعلية للشروع بمثل عملية كهذه، خصوصاً أن حجم الدمار كبير جراء المعارك التي شهدتها حلب طيلة الأعوام الأربعة، إضافة إلى الدمار الذي لحق بالمعالم الأثرية فيها.
كما ينتظر الجهات الحكومية السورية عمل كبير في المرحلة المقبلة، يتعلق بإعادة تأهيل ما يمكن تأهيله لاستمرار الحياة من جهة، وإعادة تفعيل العجلة الاقتصادية للمدينة، بالإضافة إلى عمليات مسح ستشهدها حلب لتسجيل حالات الزواج التي تمت في ظل وجود المسلحين، وأيضاً لتسجيل الولادات التي تمت في الفترة ذاتها. كذلك ستواجه الجهات الحكومية عقبات عديدة تتعلق بملكية المحلات والمنازل، خصوصاً بعد إحراق وتدمير المسلحين لكمّ هائل من الوثائق ذات الصلة.
عموماً، مهما كان نوع العمل المنتظر في حلب، فإنه حتماً ذو طابع إنمائي، يُنتظر أن يعيد إنعاش المدينة التي لم تكن تعرف النوم يوماً، لتعود درة الشمال إلى سابق عهدها، بعدما عاشت أربع سنوات عجاف، تكللت بـ «النصر الأكبر».




أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024