صراع الفصائل في مدينة أعزاز الحدودية، في ظاهره هو صراع على «حاجز الذهب» أو «معبر باب السلامة» لأسباب ماليّة بحتة. لكنّه في الحقيقة يتشعّب لما هو أبعد من ذلك. وقد ينطوي في جانب منه على صراع خفيّ على النفوذ بين القوة التركية المُتنامية داخل الأراضي السورية، والأجندة الأميركية التي تكاد تغيب عن الشمال السوري، خصوصاً في ظلّ المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها واشنطن عقب الانتخابات الرئاسية.
وليس الخلاف بين «أحرار الشام» و «الجبهة الشامية» على السيطرة على الحواجز ومعابر التهريب في أعزاز بالأمر الجديد، بل يعود إلى سنوات خلت، وتصاعد منذ حوالي ثلاثة أشهر، لذلك لا يُمكن القول إن اندلاع المعارك بينهما كان مفاجئاً. غير أن توقيت الهجوم الذي شنّته «أحرار الشام» على «الجبهة الشامية» هو المُفاجئ، لأنه جاء قبل ساعات قليلة فقط من انطلاق المعركة نحو مدينة الباب، حيث كلا الفصيلين المُتصارعين يُقاتلان ضمن «قوات درع الفرات» التي ستتولّى القيام بهذه المعركة تحت قيادة تركية. وهو ما يُثير الريبة لأنه ثاني اشتباك عسكري يحدث بين الفصائل قبيل إعلان معركة مهمة، وقد سبقه الخلاف بين جماعتي «فاستقم» و «الزنكي» في أحياء حلب الشرقية قبيل ساعات من انطلاق الموجة الثانية من «ملحمة حلب الكبرى»، الأسبوع الماضي، والتي انتهت بفشل ذريع.
وقامت «أحرار الشام»، فجر أمس، بمُشاركة بعض الفصائل الأخرى مثل «الصفوة الإسلامية» و «أحرار سوريا» بالهجوم على مواقع ومراكز «الجبهة الشامية» في مدينة أعزاز بعدما شكّلت ما أسمته «غرفة عمليات نُصرة المظلوم» وذلك لإضفاء شرعية على هجومها تُذكّر بـ «حملة القضاء على المُفسدين» التي قادتها «جبهة النصرة» ضدّ العديد من فصائل «الجيش الحرّ» في أرياف إدلب وحلب. وعلى الرغم من أن البيان الصادر باسم «نصرة المظلوم» تحدّث عن مُلاحقة قادة «الجبهة الشامية» وأبرزهم أبو علي سجو، «أمني» معبر باب السلامة، وحسام ياسين قائد «الجبهة الشامية» وآخرون بسبب تهريب السلاح إلى الوحدات الكردية في عفرين وتزويدها بمعلومات عسكرية، إضافة إلى تفجير سيارة مُفخّخة في أعزاز، إلا أن الهجوم شمل جميع مواقع «الجبهة الشامية» في مدينة أعزاز، حيث تمت السيطرة عليها جميعاً بعد اشتباكات عنيفة بين الطرفين وقع جزءٌ منها بين مخيمات اللاجئين في المنطقة، وسط أنباء عن سقوط العديد من القتلى والجرحى في صفوف هؤلاء.
ويتعلّق الخلاف الأساسي بين الطرفين بحاجز الدوّار في أعزاز والذي يُعرف باسم «حاجز الذهب» لأنه يدرّ أموالاً طائلة على من يتسلّمه تُقدّر بمئات آلاف الدولارات أسبوعياً. لكنّ موقع هذا الحاجز جاء في مكان حسّاس هو الطريق الذي يربط بين أعزاز ومدينة عفرين التي تُسيطر عليها «وحدات حماية الشعب الكردية» المدعومة من الولايات المتحدة وطائرات «التحالف الدولي»، وليس خافياً حجم العداء الذي تكنّه غالبية الفصائل لهذه الوحدات. وقد اصطدمت «درع الفرات» مع الوحدات في مراحل عدة من مسارها أهمها في تل رفعت. لكن الأهمّ هو التنافس الذي نشأ بينهما حول من يسبق إلى مدينة الباب الاستراتيجية وسط غموض يلفّ الموقفين الروسي والأميركي حول المدينة ومصيرها.
وحسب معلومات حصلت عليها «السفير» من مصادر مطّلعة على كواليس الحواجز وإدارتها في مدينة أعزاز، فقد كان ثمة اتفاق أو تفاهم بغطاء من غرفة عمليات «الموم» يقضي أن يُسهّل القائمون على حاجز «الذهب»، وهم من «الجبهة الشامية»، مرور قوافل الأسلحة والذخيرة ومختلف أنواع الدعم اللوجستي الأخرى إلى مدينة عفرين حيث تُرابط فصائل مدعومة أميركياً وتنضوي تحت «قوات سوريا الديموقراطية» على رأسها «جيش الثوار» بذريعة أن هذه الفصائل تقوم بمهمة مُحاربة تنظيم «داعش». وقد سارت الأمور جيداً طوال عام ونصف حيث كانت الإمدادات تصل إلى «قسد» بانتظام بمعرفة غالبية الفصائل. غير أن انطلاق عملية «درع الفرات» بقيادة تركية مُباشرة ووصولها إلى مراحل مُتقدّمة حيث باتت على تخوم أهم مدينة في شرق حلب هي مدينة الباب، واصطدامها مع طموح «قسد» للسيطرة على المدينة نفسها، أدّت إلى قلب المعادلة في شمال حلب وتحديداً على حاجز «الذهب» في أعزاز.
فقد أصبحت تركيا هي صاحبة القوة الأساسية في الشمال الحلبي وتنضوي تحت قيادتها كبرى الفصائل المُسلّحة، بما فيها «أحرار الشام»، وحتى بعض الفصائل التي كانت محسوبة على «البنتاغون»، بما فيها «المُعتصم» و «الحمزة» و «اللواء 51» والتي من غير الواضح حتى الآن لمن ولاؤها الحقيقي هل لتركيا أم أميركا؟ وما هو موقفها من هجوم شريكتها في «درع الفرات» «أحرارُ الشام» على شريكتها الأخرى «الجبهة الشامية» حيث لاذت هذه الفصائل بالصمت المُطبق طوال يوم أمس.
لكنّ أنقرة لا تزال تخشى من أمور عدة أهمها عدم وضوح موقف الولايات المتحدة من تقدّمها نحو الباب، ومن مُشاركتها في معركة الرقّة، وما زالت تجربة منبج ماثلة أمام عينيها. كما تخشى من أن تستغلّ «قوات قسد» تقدّم «درع الفرات» نحو مدينة الباب للالتفاف عليها وعرقلتها، خاصة أن «درع الفرات» و «قسد» أصبحتا على تماس في مسافات طويلة في شمال شرق وشمال غرب مدينة الباب.
لذلك من غير المنطقي بالنسبة لتركيا أن تستمر في تنفيذ التفاهم حول وصول الإمدادات إلى أعدائها في «قسد» بمدينة عفرين عبر حاجز «الذهب»، بينما هما على وشك الاصطدام في لحظة مصيرية وفي مدينة استراتيجية تُعتبر عاصمة «داعش» في «ولاية حلب» وممراً مُحتملاً لأنقرة نحو مدينة الرقة.
وقد كان الدور التركي في إشعال الصراع في أعزاز واضحاً وضوح الشمس وليس بحاجة لأي دليل لإثباته. لأن صحيفة «يني شفق» التركية المُقرّبة من حزب «العدالة والتنمية»، كانت قد سرّبت في مقالة كتبها إعلامي مُقرّب من «لواء السلطان مراد» التركماني، معلومات حول فساد الأشخاص أنفسهم الذين تُلاحقهم «نصرة المظلوم» أي أبو علي سجو وحاشيته، وطالبت بالتخلّص منهم، وهو ما اعتبره كثيرون أمر عمليات تركياً مُباشراً للانقضاض على هؤلاء وتصفية فصيلهم في المنطقة.
ويعدُّ هذا الانقلاب التركي على التفاهمات التي جرت في مطبخ «الموم» لتوزيع مناطق النفوذ وطرق الإمداد وتحديد موازين القوى، بمثابة رسالة ضغط مُوجّهة إلى الولايات المتحدة لئلا تخلّ بتعهّداتها تجاه تركيا إزاء مدينة الباب أو منبج أو الرقّة، وأن أي إخلال يُمكن أن يُؤدي إلى إخراج الولايات المتحدة من الريف الشمالي لحلب بكامله، خاصّة أن تركيا أصبحت تُمسك بجميع خيوط اللعبة هناك. والجدير بالذكر أن قائد «أحرار الشام» أبا يحيى الحموي اتهم الولايات المتحدة في حديث صحافي مع «تايم ترك» قبل يومين، بأنها تسعى إلى عرقلة «درع الفرات»، وشدّد على أن الفصائل المُسلّحة لا ترغب بوجود أميركا في شمال حلب، متهماً إياها بمحاولة خلق الفتنة.
وربما هذا ما دفع إلى حديث بعض النشطاء عن اتصالات يُجريها بعض الضباط الأميركيين لاحتواء الصراع ومنع تمدّده إلى مناطق أخرى، خاصّة في ظلّ معلومات أن بعض الاشتباكات بين الطرفين امتد إلى كلجبرين وكفركلبين بالقرب من مارع.
ومع ذلك بدا لافتاً أن بعض قادة «أحرار الشام» سارعوا عبر حساباتهم الشخصية على «تويتر» إلى إدانة الهجوم على «الجبهة الشامية» والمُطالبة بحل من خلال المحاكم الشرعية، وعلى رأس هؤلاء محمد طلال بازرباشي وأبو عبيدة الجزراوي وأبو العباس الشامي. فهل هذه الإدانات هي للتمويه وتخفيف وقع الصدمة أم هي دليل على أن فرع «الأحرار» في أعزاز يتصرّف من دون علم قيادته العامّة وبتأثير من الضغوط التركية فقط؟ وما يُعزّز هذا التساؤل أنه سبق لبعض مجموعات «الأحرار» في أعزاز أن قاموا قبل حوالي شهرين بإحراق علم «الثورة» والدوس عليه، الأمر الذي لاقى استهجاناً من بقية الفصائل وتوضيحاً من «قيادة أحرار الشام» بأنها تدين هذا التصرّف.
يذكر أن «أحرار الشام» أصبحت تُسيطر على جميع المعابر الحدودية مع تركيا في الشمال السوري بعد سيطرتها مؤخراً على معبر خربة الجوز الذي كانت تُديره «كتائب أنصار الشام»، باستثناء معبر باب السلامة الذي يبدو أنه بات قاب قوسين أو أدنى من دخوله ضمن سلسلة المعابر التي تُديرها الحركة وتُدر عليها مبالغ مالية طائلة.




أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024