منذ 7 سنوات | لبنان / السفير

لأول مرة في تاريخ الانتخابات الرئاسية في لبنان تغيب «الدول»، أو أنها لا تُظهِر اهتمامها المباشر بإنجازها وإنهاء «الفراغ» في قصر بعبدا، بما يعطل الحياة السياسية جميعها ويجعلها تدور في دوامة من التقديرات والتخمينات والمبالغة في تفسير زيارة هذا المسؤول الغربي أو ذاك... وصولاً إلى محاولة حل ألغاز «تغريدة» نشرها ديبلوماسي عربي وفد حديثاً إلى لبنان و «غرّد» فانقسمت الطبقة السياسية بين مهلل ومستنكر وإن توحدت في محاولات التحليل والتفسير والاستنتاج، كلٌّ بما يرضي تطلعاته أو أهواءه أو «شماتته» بالآخرين.
أوضح دليل على هذا الغياب جلسات القيام بواجب الحضور النيابي للصورة من دون انتخاب رئيس والتي بلغت، حتى اليوم، أربعاً وأربعين جلسة (بلا نصاب طبعاً) وبلا إنجاز للمهمة التي تبدت مستحيلة... والتي لا يمكن أن تتم إلا في المجلس المقفل وبأصوات نوابه.
ومع استمرار هذا «الغياب» سيظل الفراغ هو السيد في موقع الرئاسة الأولى، وسيبقى القصر الجمهوري في بعبدا مغلقاً في انتظار الذي يأتي ولا يأتي فيكتفي أنصارُهُ بالوقوف على طريقه والهتاف لمن كان فيه وخرج أو أُخرِج بعملية من خارج التوقع.
وليست مصادفة أن يتحول الديبلوماسيون في لبنان إلى طرح الأسئلة بل التساؤلات الناضحة بالشك في إمكان إجراء انتخابات رئاسية، ممتنعين عن التورط في إعطاء أي جواب حاسم أو محدد أو قابل للتأويل... والاندفاع إلى الاستغراق في شرح التطورات الخطيرة التي تشهدها المنطقة فتهدد دولها في وجودها ذاته عبر هذا المزيج الدموي المتفاقم خطورة من الحروب الأهلية ومشاريع الفتن الطائفية والنزعات الانفصالية على قاعدة عنصرية.
إن الديبلوماسيين العاملين في لبنان قد تحولوا إلى «وعاظ» يكرزون على كل من يقابلهم أو يقابلونه الوصايا والتنبيهات والتحذيرات بضرورة الحرص على صيانة أمنهم واستقرارهم، أولاً، ولو على حساب إرجاء موضوع الرئاسة والرئيس.
وعلينا أن نعترف، بداية، بأن ليس بين «الدول»، عربية وأجنبية، مَن يهتم لأمر الرئيس الجديد لهذه الجمهورية التي تكلفها كل انتخابات رئاسية بعض رصيدها المعنوي المتصل بحق شعبها، ولو عبر نوابها المطعون في صحة تمثيلهم، لا سيما بعد تمديدهم ولايتهم مرة بعد مرة، في اختيار رئيس البلاد.
ربما توجب علينا، قبل ذلك، أن نعترف بأننا ـ كلبنانيين ـ لم ننتخب مرة رئيساً لنا بإرادتنا وحدها وأصوات نوابنا الأفاضل وحدهم، خصوصاً وأن إراداتهم ليست لهم أو ليست معهم،
فلنتساءل بمنطق مبسط: مَن مِن الدول العربية التي كانت، تاريخياً، صاحبة قرار أو شريكة في القرار حول من يشغل رئاسة الدولة في لبنان؟
إن العواصم المعنية مشغولة بأوضاعها الداخلية المأزومة، أو بحروبها ضد الأشقاء ممن كانوا شركاء في القرار حول الرئاسة في لبنان (مع الأميركي منذ نهاية الخمسينيات...). فسوريا الغارقة في دمائها تجاهد للحفاظ على دولتها ووحدة ترابها الوطني، ومصر باتت بعيدة لانشغالها بهمومها الثقيلة، والسعودية ـ ومعها إمارات الخليج ـ منغمسة بالدم في حربها على اليمن،
ولو أن واحدة من عواصم القرار، وتحديداً دمشق أو الرياض أو كلتيهما معاً، تملك فائض الوقت للاهتمام بمسائل السياسة في «الخارج» ـ ولو عربياً ـ لأمكن التقدير أو التخمين أو ربما الحسم في مسألة الرئيس العتيد لإنهاء الشغور في القصر الجمهوري والفراغ السياسي المنهك في لبنان. أما وان كل دولة مشغولة بهمومها الذاتية الثقيلة فلا ينتظر أن تندفع أي منها إلى الغرق في «المستنقع اللبناني» بصراعات زعاماته الطوائفية وقياداته السياسية التي تستهلك أجيالاً من اللبنانيين من دون أن تتغير أو تتنحى.. ولو لذريتها الصالحة.
وإنه لأمر مثير أن نشهد تظاهرة سياسية على طريق القصر الجمهوري في بعبدا وخطابات وشعارات حماسية توحي وكأن معركة الرئاسة قد حسمت فعلاً أو أنها على طريق الحسم مع وصول حامل كلمة السر (العربية) إلى بيروت.. برغم أن الرياض لم تغادر صمتها، ودمشق ليست على السمع.. ثم ان واشنطن مشغولة في خضم معركتها الرئاسية بالمفاضلة بين المرشح الغبي ولو هائل الثراء، والمرشحة الشاطرة ولو انها مثقلة بأخطائها وخطايا زوجها الرئيس الذي تخطى «المحنة» وحكم ولايتَين كاملتَين.
وكالعادة، يصبح لما يسمى «عواصم القرار» أكثر من ناطق باسمها في حالة غياب صاحب القرار أو انشغاله بالأهم والأخطر من همومه.. فكيف إذا كان في حالة حرب ليس واضحاً متى تنتهي وكيف، وفي غمار تحول خطير لنقل مملكة الذهب والسيف إلى عصر طالما وقفت على بابه متهيبة دخولها فيه وهي تعيش مع ماضيها في قلب الصمت والانطواء على الذات؟
أما «الشارع» فنادراً ما كان صاحب الكلمة الفصل، لأن الشارع في لبنان شوارع بعدد عواصم القرار، ناطقة أو محكومة بالصمت لأسباب تخصها، فإذا ما غادرته فإلى الحرب كما يشهد اليمن السعيد.
مع ذلك نتمنى أن تكون «تظاهرة القصر» بشارة خير بانتهاء عصر الفراغ المدوي في الدولة التي تكاد.. تندثر!




أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024