منذ 6 سنوات | العالم / القبس




من يقود أوروبا؟ حتى مطلع العام الحالي، كان الجواب واضحا. كانت أنجيلا ميركل تتجه بقوة، نحو فوز رابع في الانتخابات، بينما كانت بريطانيا تخرج من اوروبا، وايطاليا تتراجع وفرنسا تدخل في ركود اقتصادي نتيجة المخاوف من فوز مارين لوبان في انتخابات الرئاسة وتصبح ترامب اوروبا.

الامور تبدو مختلفة تماماً الان. فقد فازت ميركل في انتخابات سبتمبر الماضي، لكن مع انكماش عدد الأصوات والمقاعد التي حصلت عليها، تراجعت قوتها كثيراً. وتواجه المانيا خيارات صعبة خلال المرحلة المقبلة. فقد صوت حوالي 6 ملايين ناخب لحزب يميني يجاهر بكُره الأجانب، وفعل كثير منهم ذلك احتجاجاً على سياسات ميركل تجاه اللاجئين. لقد اصبح «حزب البديل لألمانيا»، قوة تعطيل واستقطاب كثالث اكبر حزب في البلاد، بعد أن كان لا يمتلك أي مقعد في البرلمان (البوندستاغ).


وفي فرنسا، حيث البرلمان يهيمن عليه حزبه الجديد، فإن لدى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طموحات للاضطلاع بدور اوروبي كبير. ولا تعتمد قدرة ماكرون على استعادة دور مركزي لفرنسا في الاتحاد الأوروبي بعد أكثر من عشر سنوات ظلت فيه في الظل، على خططه لأوروبا فحسب، بل أيضاً على نجاحه على الساحة المحلية، وقدرته على إصلاح بلد ظل ينظر إليه منذ فترة طويلة على أنه عصيٌ على الإصلاح.

رائد الابتكار الفكري


لقد بدأت خطابات ماكرون تحفل بالأفكار، بما في ذلك، الحديث عن ميزانية عسكرية مشتركة وإنشاء وكالة اوروبية للاختراع، فضلاً عن الرغبة في تعزيز منطقة اليورو. فمحاولة ماكرون الاضطلاع بدور رائد الابتكار الفكري في أوروبا، يناسب تقليد فرنسي طويل. وبالإضافة الى ذلك، فإن عناصر خطابه – مثل فرض ضريبة كربون جديدة على مستوى الاتحاد الأوروبي، واقتراح فرض الضرائب على شركات التكنولوجيا الأجنبية حيث يكسبون المال، وليس حسب مكان تسجيلها، وفرض ضرائب منسقة على الشركات – تنسجم كلها مع استمرار المحاولات الفرنسية القديمة لوقف المنافسة غير الشريفة بين الدول الأعضاء بعضها ضد بعض.


ومع ذلك، فإن لدى ماكرون هدفاً أكثر دقة وراديكالية. ولإثبات ذلك، وافق مؤخراً على تخلص شركة «الستروم»، المصنعة للقطارات العالية السرعة، والاندماج مع شركة المانية منافسة تابعة للقطاع الخاص. وربما يهدف الرئيس الفرنسي الى التخلص من الشعبوية من خلال تحقيق التوازن بين توفير الأمن الوظيفي للمواطنين، من ناحية، وتشجيعهم على تبني الابتكار، الذي يخشى الكثيرون من أن يكلفهم وظائفهم، من جهة أخرى. وتحدث ماكرون في خطاباته، أيضا عن انجاز السوق الرقمية الموحدة. ومن شأن إصلاح منطقة اليورو أن يجعل أوروبا أقوى على مواجهة الأزمة المالية المقبلة.

قلعة الحمائية


وتعتمد فعالية هذه الأفكار على ما إذا كانت ستؤدي إلى أوروبا أكثر قدرة على المبادرة والانفتاح والثقة أم إلى قلعة الحمائية. لكن قد لا يتم الحكم عليها على الإطلاق، ما لم يتمكن ماكرون من تحقيق النجاح في سياساته الداخلية. لأنه إذا ظلت فرنسا تشكل تهديداً للاستقرار الاقتصادي للاتحاد الأوروبي وليس مصدراً لقوته، فإن رئيسها لا يمكن أبداً أن يكون أكثر من مجرد لاعب خلف المستشارة الألمانية.
قد يبدو أن السياسة الداخلية للرئيس ماكرون قد بدأت ضعيفة. لكنه استحوذ على عناوين الاخبار بفضل مشروعه للاصلاح، وانهيار شعبيته ونزوة الغطرسة وتعطشه للسلطة. ومن السهل توقع أن يثير الفرنسيون المتذمرون الجدل بالفعل، على شرعية الخطط التي انتخبوا ماكرون لتنفيذها. ويبدو أن الإصلاح في فرنسا يتبع نمطا معيناً، يتمثل في أن يعارض الشارع ثم تتراجع الحكومة. وتسود حالة من الشلل.
ولكن اذا القينا نظرة عن قرب، نجد ان ماكرون يخرج عن المألوف. فقد حدث شيء استثنائي الصيف الماضي، حتى لو لم يلحظه كثيرون. فحين كان معظم الفرنسيين على الشواطئ، تفاوض ماكرون واتفق مع النقابات اصلاحات ليبرالية بعيدة المدى، ووقعا قانوناً في 22 سبتمبر الماضي، ودون كثير من الضجيج. ولم تنجح حتى الآن، النقابات الفرنسية، ولا اليساريون المتطرفون، في جمع الدعم الجماهيري الذي كانوا يأملون به في الشوارع. ويقول %59 من الفرنسيين أنهم يدعمون إصلاح قانون العمل. ومن المؤكد حدوث احتجاجات. فالمعارك الأصعب حول المعاشات التقاعدية، والضرائب، والإنفاق العام، والتعليم، ما زالت بالانتظار. وربما كان الرئيس ماكرون بحاجة إلى ضبط أعصابه، ولكن المفاجأة انه قد اجتاز الاختبار الكبير بنجاح.

شجاع ومنضبط وواعٍ


ماكرون البالغ من العمر 39 عاما، ما زال – في كثير من النواحي – غير مفهوم بشكل جيد حتى الآن. فوراء هذا التعالي الظاهري، زعيم يبزغ فجر نجمه ويبدو شجاعاً ومنضبطاً وواعياً.. شجاعًا، لأن إصلاحات قانون العمل، كما تعلم ألمانيا وأسبانيا، يستغرق وقتاً طويلاً ليخلق فرص العمل، وعادة ما يحصد فوائده الساسة الذين يخلفون أولئك الذين يقومون بالعمل. ومنضبطاً، لأنه رسم بوضوح – قبل انتخابه – ما كان يخطط للقيام به، والتزم بوعوده. وقد تشاور مع النقابات بشكلٍ كامل، ووافقت نقابتان من أصل ثلاث نقابات كبرى، على الإصلاح. ولمقارنة ذلك مع سلفه، فرنسوا هولاند، فهو حاول الاصلاح خلسة، وقوبل باتهامات بسوء النية. ولا يمتلك ماكرون أطراً سياسية جاهزة. لقد استوعب كيف غيرت تكنولوجيا المعلومات سوق العمل. وفلسفته في الحكم تتلخص في تعديل قواعد وانظمة الحماية بما يتواءم مع ذلك.


على مدى السنوات القليلة الماضية، كانت فرنسا المنهكة، شريكاً ضعيفاً بشكل مزمن، لألمانيا، مما دفع ميركل إلى دور منفرد لم تسعَ إليه ولم تستمتع به. وإذا كان ماكرون يريد تغيير هذه الديناميكية، فإنه بحاجة إلى التحرك بسرعة لمطابقة قانون العمل مع إصلاح ميزانية التدريب غير الفعالة في فرنسا، وزيادة عدد المعاهد الصناعية وتجديد خدمات التوظيف الخاملة للدولة. ويحتاج أيضا إلى أن يشرح بأن خططه لخفض الضرائب، بما في ذلك ضريبة الثروة الفرنسية وضريبة الشركات، ليست مصممة ببساطة لمصلحة الشركات والاغنياء. وفي اوروبا، يحتاج إلى طمأنة الاقتصادات الشمالية الأكثر انفتاحاً، أنه لا يحاول إقامة الجدران.


وبطبيعة الحال، فإن الخطوات الأولى لماكرون في دائرة الضوء قد تتعثر. فاحتمالات نجاح أي زعيم في إصلاح فرنسا لم تكن عالية أبداً. وسوف يكافح من أجل إقناع ألمانيا بأن تتبنى رؤيته لإصلاح منطقة اليورو. لكن، إذا كان هذا العام قد أظهر شيئاً ما، فهو أنه من الخطأ المراهنة على فشل ماكرون.


أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024