منذ 7 سنوات | العالم / السفير







التمهيد السياسي والمدفعي للغزو التركي كان قد بدأ منذ ايام. وربما ليست صدفة ان دبابات رجب طيب اردوغان عبرت الحدود السورية نحو مدينة جرابلس بهذه الطريقة الاستعراضية، قبل ان يستقبل ضيفه الاميركي نائب الرئيس جو بايدن. دمشق تدرك الان، كما أنقرة، ان «الكانتون الكردي» الافتراضي، والذي تأججت نيرانه من الحسكة قبل ايام، تعرض الان، في جرابلس، الى عملية بتر قاضية.

ارتكبت القوى الكردية مجددا الخطأ التاريخي ذاته. المراهنة على صراعات القوى الدولية والاقليمية للمبادرة الى مشروع المستحيلات، بقضم ارض وافتراض اقامة دولة منفصلة، في لحظة يظنونها مناسبة. مفاوضات الحسكة في الايام الماضية، اظهرت محاولة هذه القوى استغلال انهاك الدولة السورية في ظل حرب الاعوام الستة، لفرض «سيادة» بديلة. ذهبت المقاتلات الجوية السورية الى اقصى الشمال الشرقي السوري لتقصف «المشروع» بعدما تعالت اللهجة. بالامس، عبرت الدبابات التركية الحدود، لا باسم محاربة تنظيم «داعش» فقط، وانما لوأد مسعى الانفصال الكردي. وفي كل الحالات، المقتول هو السوري.

لكن «الخطر» الذي ركزت عليه انقرة وهي تطلق دباباتها ومدفعيتها وسلاحها الجوي، لم يكن وليد الامس. «المشروع» الكردي كان يتبلور تدريجيا منذ سنوات، بعدما ساهمت أنقرة كما غيرها من العواصم، في ضرب الدولة المركزية في دمشق. فلماذا اختارت تركيا هذا التوقيت لتنفيذ هجومها؟ بعد نحو شهر على الانقلاب الفاشل ضد اردوغان. وبعد الفتور، ولا نقول الانكسار، الذي اصاب العلاقات مع الحليف الاميركي، والغربي استطرادا. وبعد التطبيع الذي تسارع بين انقرة وموسكو، وبعد التنسيق المكثف بين الايرانيين والاتراك، ولهذا اصبح من الممكن للقوات التركية ان تعبر الحدود لعمل عسكري واسع، بتناغم مع اللاعب الروسي الاساسي في المشهد السوري، ومع تكرار تركي للعبارة الذهبية: حفاظا على وحدة وسيادة الاراضي السورية!

أنقرة تتفضل علينا الان بالقول ان لنظام الرئيس بشار الاسد مكانه الى طاولة المفاوضات للحل السوري. كررت هذه العبارة مرارا خلال الايام القليلة الماضية. دمشق التي كانت اتهمت ميليشيات الاسايش الكردية في الحسكة بانها الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني، تدرك تماما ان الهاجس التركي الاول مرتبط بالمشروع الكردي المفترض، وليس بـ «داعش».

ومهما يكن، فان العملية العسكرية التركية تشكل غزوا صريحا مهما كانت اهدافه، وحتى لو قال الاتراك لاحقا انهم بتروا عبر جرابلس الكانتون الكردي في الصميم. كما لا بد من ملاحظة الاشارة السورية الى ان استبدال ارهابيي «داعش» بارهابيين من فصائل مسلحة اخرى، ليس حلا لمواجهة الارهاب. اما الملاحظة الاخرى التي يجب التوقف عندها، فهي ان معركة حقيقية لم تحصل في جرابلس، ولم يعلن رسميا عن سقوط أي قتيل تركي في التوغل العسكري، ولم تندلع اشتباكات تذكر في داخل المدينة التي كان يفترض تخليصها من «داعش». لا بل ان التقارير تشير الى ان مقاتلي التنظيم غادروا المدينة، وهناك من ردد انهم غادروا منذ ايام ... الى تركيا!

اذن، الكردي هو المستهدف الاول في العمل العسكري. اما الاهداف الاخرى بعد جرابلس، فلن تتضح سوى بعد انجلاء غبار المعركة الاستعراضية الحالية، وستحتم مراقبة جموح اردوغان وحساباته في ضوء الوقائع الجديدة التي فرضت عليه خلال الاسابيع الاخيرة الماضية، وما اذا كان سيسعى الى فرض «المنطقة الآمنة» التي طالما نادى بها، وما اذا كانت القنوات ستفتح بينه وبين دمشق، سواء عبر رعاية موسكو او طهران، لا عبر واشنطن بالتأكيد. وبهذا المعنى، بدت المبالغة الاميركية في التعبير عن دعم الغزو التركي، بل والمشاركة فيها وتأمينها جويا، محاولة اميركية للتأكيد على سيطرتها على مشهد الشمال السوري، وهو هدف تبدو حساباته اكثر تعقيدا مما تعتقده واشنطن حتى الان.

فماذا عن الوقائع الميدانية؟

سيطرت فصائل سورية «معارضة» مدعومة من تركيا على جرابلس بعد ساعات على اعلان انقرة غزوها تحت اسم «درع الفرات» بهدف إزالة المخاطر الناجمة عن تنظيم «داعش» والمقاتلين التابعين لحزب «الاتحاد الديموقراطي» الكردي عن حدودها.

وقال القيادي في «فرقة السلطان مراد» احمد عثمان لوكالة «رويترز» إن «جرابلس باتت محررة بالكامل»، الامر الذي أكدته «حركة نور الدين زنكي» مشيرة الى «انسحاب داعش الى مدينة الباب»، فيما أشار مدير «المرصد السوري لحقوق الانسان» رامي عبد الرحمن إلى أنه «لم يكن هناك اي مقاومة تذكر من قبل من تبقى من مقاتلي داعش» في جرابلس.

العملية العسكرية التركية بدأت، فجرا، بقصف مدفعي وجوي مكثف على مواقع «داعش» في جرابلس، وشاركت مقاتلات أميركية في توجيه الغارات الجوية إلى جانب الطائرات الحربية التركية. ولاحقا، دخلت قوات خاصة تركية الى محيط المدينة السورية، لتفتح ممراً آمنا للقوة الأساسية التي تدعمها مدرعات وطائرات حربية.

مواقع تابعة لـ «المعارضة» السورية المسلحة عدَّدت الفصائل المشاركة في العملية، ونقلت عمن سمتها بمصادر عسكرية تأكيدها أن «أكثر من 1200 مقاتل سوري يتبعون لفصائل فرقة الحمزة، وفيلق الشام، والسلطان مراد، وحركة أحرار الشام الإسلامية، وحركة نور الدين الزنكي، وجيش التحرير، وصقور الجبل، والجبهة الشامية، أقاموا معسكرات مشتركة مع القوات الخاصة التركية على مدار الأسبوع الماضي».

وأوضحت قناة «خبر تورك» أن ما بين 10 و15 دبابة دخلت الأراضي السورية واتجهت نحو جرابلس، فيما أفادت قناة «سي إن إن تورك»، عن دخول مقاتلات تركية من طراز «إف – 16» الأجواء السورية خلال العملية العسكرية، مشيرة إلى أن هذه الخطوة تعد الأولى من نوعها بعد حادثة إسقاط القاذفة الروسية «سو 24» فوق الأراضي السورية في تشرين الثاني الماضي.

أما صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، فذكرت أن مدربين عسكريين أميركيين وطائرات من دون طيار في قاعدة «إنجرليك» جنوبي تركيا تقدم دعما لأنقرة في حملتها.

وقال مسؤول أميركي، طلب عدم كشف هويته، وكان على متن الطائرة التي اقلت بايدن إلى أنقرة، في تصريح لوكالة «رويترز»، إن «الولايات المتحدة ستقدم غطاءً جوياً للقوات التركية المشاركة في العملية»، مضيفاً «نريد مساعدة الاتراك على تخليص الحدود من وجود تنظيم الدولة الاسلامية».

اردوغان

أعلن أردوغان أن عملية «درع الفرات» تستهدف إزالة المخاطر الناجمة عن تنظيم «داعش» وحزب «الاتحاد الديمقراطي» الكردي. أردوغان أكد استعداد أنقرة «لأخذ زمام الأمور في يديها في حال اقتضت الضرورة ذلك من أجل حماية سلامة الأراضي السورية»، مصراً على أن «الشعب السوري هو من سيقرر مصير بلاده»، معلناً استعداد بلده لاتخاذ خطوات مشتركة مع التحالف الدولي وروسيا بشأن سوريا.

وتابع «منذ البداية لم يكن لدينا نية أخرى سوى تقديم العون الخالص إلى أشقائنا السوريين الذين تربطنا بهم روابط تاريخية قوية، ولم نفعل إلا ذلك».

وشدد أردوغان على أن تركيا «لن ترضى بالمكيدة التي يُراد تنفيذها في سوريا، ولن تقبل بفرض الأمر الواقع، سنستخدم جميع إمكانياتنا لحماية وحدة الأراضي السورية، بما في ذلك تولي الأمر بشكل فعلي في حال الضرورة، نحن مصرون على أن تُدار تلك الدولة (سوريا) بإرادة شعبها».

وقال أردوغان إن تركيا ستتخذ الخطوات اللازمة من أجل مستقبلها، ومن أجل أمن وسلام «إخوتنا السوريين»، مشيرا أن تركيا أبلغت قوات التحالف، والولايات المتحدة، والدول الأوروبية، وروسيا، استعدادها لاتخاذ خطوات مشتركة في المنطقة.

وتوجه أردوغان إلى «الدول التي تدعم التنظيمات الإرهابية»، في تلميح واضح إلى الدعم الأميركي لـ «وحدات حماية الشعب» الكردية المنضوية تحت لواء «الاتحاد الديموقراطي»، وشبهها بمن يمسك رمانة سحب منها مسمارها.




أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024