منذ 7 سنوات | حول العالم / الحياة

لنحرك النقاش، ولنبدأ بمجموعة صغيرة من الأسئلة. ما هي الغاية الأصيلة والمثلى للثقافة عموماً؟ ألا تتمثّل في توليد الوعي وتجديده والارتقاء به سعياً لارتياد آفاق تتجسّد فيها معاني التقدّم والحضارة؟ في المقابل، كيف ينجز الوعي أشياء تفوق طاقاته، بل تجعله يبدو ضحلاً متراجعاً أمام ما أنجزه بالذات؟ كيف تستقيم تلك الصيغة التي يبدو طرفاها كأنهما انفلتا عن التوازن؟ كيف يمكن استعادة التوازن المفقود في العلاقة بين الوعي والمعلوماتيّة، مع ملاحظة أن الأخيرة هي محض نتاج للأول؟

لعل الخوض في دروب تلك الآفاق الواسعة والغامضة، هو جزء من حال ترنّح ذهني بات منتشراً في الحضارة المعاصرة. وبصورة أوسع، كلما تقدّم العلم وتعمّق في تخصّصاته، بدا العالم كأنه أشد غموضاً بمعنى عدم قدرة الوعي على توليد رؤية شاملة تمكن الإنسان من فهم ما يحصل حوله. وفي المقابل، هناك من يخرج من ذلك المأزق عبر الغرق في تصوّرات ورديّة كالقول بحتميّة مجيء مستقبل تكون فيه العقول الحاسوبيّة وذكاؤها الاصطناعي المسيطرة على الأرض، بل أنّها تحدّد أطر «التعايش» معها إلى حدّ أنّها «ربما تعامل البشر كحيوانات أليفة»، وفق تعبير المختص في الذكاء الاصطناعي مارفن مينكسي.

هناك نوع من التهويل على العقل يظهر مثلاً في تلك الأرقام عن القدرات الفائقة للمعلوماتيّة وتقنيّاتها. يشمل ذلك القول أن ضخامة المعلومات الرقميّة وصلت إلى حدّ أنها لو وضعت على أسطوانات «سي دي» مدمجة لكانت كافية لصنع 5 طرق بين الأرض والقمر (384 ألف كيلومتر)! ويشبه ذلك الحديث عن قدرة التقنية على تحطيم الزمن عبر عملها على مقاسات فائقة الصغر كالـ «فيمتوثانية» التي تساوي أقل من كسر من تريليون من الثانية. ما القصد من ذلك كلّه؟ الأرجح أنّه فرض منطق يكرّس تفوّق التقنية على العقل البشري ووعيه. ويتشابك الأمر مع التعقيدات الناجمة عن مسار العولمة، والوضع الكارثي لبيئة الكرة الأرضيّة، وتفجّر حروب معقّدة، وتصاعد صراعات الهويات، وطغيان معطيات الظاهرة الدينيّة وغيرها.

 

آفاق قاتمة: انهيار الحضارة؟

بقول آخر، بينما تحاول التقنية الاستيلاء على الوعي عبر وعود ورديّة بمستقبل مزدهر بفضل سيطرة الذكاء الاصطناعي (بل ربما نوع من فردوس أرضي)، تقذف الوقائع بصور مغايرة تماماً. ويحضر في البال أيضاً أن التقدّم التقني استخدم كثيراً في نسج أيديولوجيّة استعماريّة كانت لها منظومات عدّة. وربما يتكرّر الأمر حاضراً عبر صور كالقدرة على اختراق أسرار الدول، بل شلّ بناها الأساسيّة التي باتت معتمدة على الشبكات الإلكترونيّة العالميّة. ثمة صورة ترتسم تدريجيّاً يصعب ألا توصف بأنها ترهيب عبر إبراز القوّة التي تحوزها دول معيّنة في الفضاء المعلوماتي. ليس من مجازفة كبرى في القول أنّه إرهاب للعقل بالمعلوماتيّة وقدراتها الفائقة في الفضاء الافتراضي.

إذاً، في بطن الوعود الزاهية للمستقبل التقني، هناك إرهاب فعلي يسعى لفرض سيطرة شبه شاملة. ألا يقود ذلك التناقض إلى توليد إحساس باقتراب كارثة وخيمة، ربما تؤدي إلى انهيار شامل في حضارة الإنسان؟

ضمن تلك الآفاق المتمازجة، يبدو كأن العقل الإنساني مدعو لخوض حرب معقّدة لكنها محتّمة تماماً. ثمة صحوة باتت ضروريّة حيال التقنيّة وآلياتها، تتطلّب توظيف أقصى قدرات الطاقة الذهنيّة وذاكرتها ومخزوناتها، إضافة إلى التعمّق في مهارات الاستدلال المستند إلى الأرقام والبيانات والإحصاءات. ويجدر أن يتكامل ذلك مع خروج العقل من الغرق في الطموحات الماديّة المحضة، والانتقال صوب آفاق إشباع التطلّعات الإنسانيّة وقيمها السامية، مع التشديد على أنّ إنسانيّة البشر هي ملاذهم الأول والأخير بل هي أثمن رأسمال للحضارة بأسرها.

إذاً، على رغم الصورة الشائعة عن الإنجازات المبهرة لثورة المعلوماتيّة، يجدر تشمير الأكمام للخوض في آليات تقويم العقل الذي ينتجها عبر إخضاعه للخبرة المعرفيّة للبشر. الأرجح أن تتمثل الخطوة الأولى في الانتقال من حال التعرّف إلى البعد التقني المعاصر بتشابكاته كلّها، وفهمها واستيعاب مسارات تطبيقها. وبعدها، تنفتح الآفاق أمام وعي ناتج من تحليل الخلاصات المستفادة وينجم عن الخطوة الأولى، ثم تقويمها وفهمها بدقّة. وفي الخطوات كلها، يجدر إبقاء اليد موضوعة على عصب أساسي: الإنسانيّة هي الحال المرجوّة أولاً وأخيراً. وتتمثّل مفرداتها في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانيّة التي يجب أن تتعزّز مع كلّ تقدم تقني ليظل معبد الحكمة قابعاً في بؤرة العقل المعاصر.


أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024