آخر من رأى الطفلة الضحية فاطمة وتحدث معها قبل موتها المفجع بحوالي أربع دقائق، هو رئيس مكتب البحث الجنائي في قسم شرطة الميدان، الرائد محمد باطوس.

ونقلت صحيفة "الثورة" السورية عن الرائد ما دار بينه وبين فاطمة:

طفلة عمرها حوالي ثماني سنوات ترتدي معطفاً أحمر وتضع قبعة حمراء وشالاً أصفر وتحمل بيدها كيساً أسود بداخله كيس شيبس…ملامح وجهها مجردة من تعابير الطفولة وفي عينيها حزن عميق. دخلت إلى المكتب وكانت مرتبكة قليلاً، ولكنها تتحدث بسرعة وتجيب على الأسئلة- عرفت عن نفسها بأنها طفلة عمرها سبع سنوات تدعى "نور حوراني" من أهالي برزة.‏‏

ادعت أنها طفلة حضرت مع والدتها من محلة برزة إلى المجتهد من أجل شراء بعض الحاجيات، وأنها دخلت إلى أحد المحلات التجارية لشراء كيس شيبس، وعندما خرجت لم تجد والدتها وبحثت عنها دون جدوى وأنها من برزة مقيمة بجانب جامع السلام. عند دخولها إلى مكتبي تعاطفت معها كأي طفلة تائهة وسألتها عن اسمها فأجابت بأنها نور حوراني، ماالعمر: سبع سنوات، اسم الأب لا تعرف، اسم الأم: لا تعرف، رقم الهاتف: لاتعرف، مكان الإقامة: برزة جانب جامع السلام…فقلت لها: "عمو نور"…ليس من المعقول أن لا تعلمي ما هو اسم الأب أو الأم، فأنا ابني عمره خمس سنوات ويعلم اسمي واسم والدته،" كما أن ملامحك تبدو أكثر من سبع سنوات.

وضعت الطفلة يدها اليسرى على سحاب الجيب الأيسر للمعطف وقامت بفتحه نصف فتحة، وفي تلك اللحظة وردني اتصال هاتفي من زوجتي التي تقيم بنفس بناء القسم، الطابق الرابع، فأعلمتها بأنه يوجد عندي طفلة صغيرة جميلة وضائعة تبحث عن أهلها وهي تشعر بالبرد والجوع، وطلبت منها أن تضع الطفلة عندها في المنزل كي تلعب مع ولدينا محمود وزين، وأن تطعمها معهما وتدفئها وتلبي احتياجاتها ريثما نعثر على ذويها ويحضرون إلى القسم لاستلامها، كون الطفلة أنثى وليس من المعقول أن تنتظر انتهاء إجراءات البحث عن ذويها في مركز القسم بين عناصر الشرطة المنشغلين بالتحقيق في الجرائم مع المجرمين.‏‏

"استرجع تلك اللحظات…"‏‏
‏‏كانت الطفلة تسمع ما يدور من حديث بيني وبين زوجتي، وبدأت ترتسم على وجهها معالم الاستغراب والتناقض في الأفكار، حيث تم زرع أفكار في رأسها مغايرة لما سمعته ورأته.‏‏ كان في رأسها أفكار عن "النظام" والضباط وصف الضباط بأنهم أشرار يغتصبون النساء ويقتلون الأطفال، وما رأته مغاير لذلك، رأت ضباط "النظام" يتعاملون بلطف مع الأطفال وعطف واحترام، لدرجة أني سأضعها لتأكل وتلعب مع أولادي وسأدخلها بيتي وتمت معاملتها كولد من أولادي.‏‏

يتابع وقد ترغرغت عيناه بالدموع: عندها أرجعت سحاب الجيب الأيسر للمعطف وانتظرت انتهاء المكالمة الهاتفية. وعندما أغلقت السماعة وعدت للحديث معها طلبت الدخول إلى الحمامات، فطلبت من الرقيب علي حسن الموجود معنا أن يدخلها إلى الحمامات الخاصة بالضباط الموجودة في نفس الطابق، كونه لا يوجد فيها أحد وحمامات العناصر موجودة في الطابق الأرضي وقد يكون فيها أحد العناصر ويمكن للطفلة أن تخجل، لذلك أعطيته مفاتيح حمامات الطابق الأول الخاصة بالضباط وطلبت منه أن ينتظرها ويهتم بها وألا يتركها لوحدها. وبعد مرور أربع دقائق من دخولها الحمامات سمعت صوت الانفجار، فخرجت مسرعاً من مكتبي لأشاهد رأس الطفلة خارج الحمامات المدمرة. تبادر إلى ذهني أن هجوماً إرهابياً تعرض له القسم بصاروخ فعدت إلى مكتبي وأخذت سلاحي وخرجت إلى سطح الطابق الأول. وعندما نظرت إلى جدران القسم الخارجية وجدتها سليمة، عندها استنتجت أن الانفجار حصل من داخل القسم وفي الحمامات ولم يكن يوجد غير الطفلة والرقيب علي وكانت أشلاء الطفلة تدل على أنها كانت ترتدي حزاماً ناسفاً، كون الأجزاء المتبقية من جسدها هي الرأس والقدمان فقط.‏‏

تتوقف الاستنتاجات في هذه اللحظة وربط الحوادث واسترجاع الأحداث يحتاج لفترة زمنية، هل كانت طفلة صغيرة اتخذت قراراً يعجز الكبار عن اتخاذه في الوقت الحالي كما نشاهد ونسمع وهو الرجوع عن ارتكاب خطأ كبير في اللحظة الأخيرة؟‏‏

هل قامت بتفجير نفسها في الحمامات كي لا تصيب أحداً بأقل الأضرار؟‏‏

وهل ارتدت حزاماً ناسفاً ونجحت بالدخول إلى مركز قسم شرطة ومكتب ضابط فيه من أجل أن تتراجع وتطلب الدخول إلى الحمامات لكي تنتهي حياتها هناك بأقل أذى للآخرين؟‏‏

هل تراجعت الطفلة وحاولت التخلص من الحزام الناسف في الحمامات، إلا أنها لم تنجح في ذلك لعدم خبرتها في نزع الحزام الناسف وحصل الانفجار نتيجة ذلك؟‏‏

كل ما أعلمه وأنا متيقن منه الآن، أن براءة الطفولة في النهاية هي من انتصرت…لم تتغلب عليها الأفكار السوداوية التي زرعت ولا التعليم الخاطىء ولا التلقين المغلوط. كانت الطفلة صاحبة قرار صحيح في النهاية.‏‏

علينا جميعاً أن نتعلم منها…رحمها الله وجعلها عصفوراً من عصافير الجنة. وفي نهاية حديث الذكريات الحزين والمؤلم، سألنا الرائد محمد: ألم يتبين من لباسها أنها تحمل شيئاً تحت ثيابها؟‏‏

فقال: لم نلاحظ وجود أي شيء تحت لباسها وخصوصاً أن خبرة إدارة الأمن الجنائي قدرت وزن المادة المتفجرة بـ 1كغ "تي إن تي"، وكانت الفتاة ترتدي معطفاً ولباساً شتوياً يمكن توزيع كمية 1كغ ضمن معطفها دون أن تظهر للعيان.‏‏


أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024