منذ 7 سنوات | لبنان / الديار

عودة الارهاب الى الساحة اللبنانية من بوابة الانتحاري المفترض عمر العاصي في مقهى «الكوستا»، لا يثير الكثير من علامات التعجب، لان لبنان لم يخرج من دائرة الخطر الامني، وهو في ظل الحريق الكبير المستمر في المنطقة والعالم، جزء لا يتجزأ من هدف الارهابيين الذين يوسعون دائرة استهدافاتهم التي لن تكون الحمرا آخرها، هذه العملية النوعية انجاز يسجل للاجهزة الامنية وهي تحمل الكثير من الدلالات، وعلامات الاستفهام، وستكون منطلقا لمسار جديد لمكافحة الارهاب الذي يحتاج الى مواكبة سياسية جدية للجهود الامنية...

«الرواية الكاملة» للعملية الامنية المعقدة لن تنشر تفاصيلها كاملة، وبحسب اوساط خبيرة في شؤون الحرب على الارهاب، سيبقى جزء من التحقيقات الاولية مع الارهابي قيد الكتمان، وبعض التسريبات ستكون مضللة، لخدمة الملاحقات الامنية اللاحقة، وما حصلت عليه الاجهزة المعنية سيخولها خلال الساعات القليلة المقبلة الانتقال من «الدفاع» الى «الهجوم» لتوقيف المخططين والمتورطين في هذه الجريمة، خصوصا ان الاجهزة الامنية بات لديها اكثر من «خط» يمكنها ان تعمل عليه، ومنها اولا اعترافات العاصي، وثانيا، خريطة داتا الاتصالات الموجودة في هاتف الانتحاري والتي تعتبر «كنز» من المعلومات المهمة... لكن ما يمكن استنتاجه حتى الان ان ما تم انجازه يعد واحدة من الانجازات الامنية التي نالت اعجاب الاجهزة الاستخباراتية الاقليمية والدولية التي ستكون معنية بالاستفادة من استراتيجية الحرب الاستباقية التي تنتهجها القوى الامنية اللبنانية... 

ووفقا للمعطيات، فان المسار العام للعملية يؤكد وجود «معلومة» مسربة من «الداخل»، اي من الدائرة «الضيقة» المحيطة بالانتحاري، ومن الواضح ان ما كانت تملكه استخبارات الجيش من معلومات يشير بوضوح الى تورط العاصي في عمل امني ما في منطقة الحمرا، وكانت بحوزتها كل المعطيات حول خارطة طريق ومسار هذا الشخص، والمكان الذي يفترض ان يكون محطة اولية لانطلاق عمليته الارهابية او تنفيذها في المكان نفسه، لكن ومن خلال المعطيات الدالة على تعامل القوة الضاربة في استخبارات الجيش مع الموقوف، ثمة ما يشير الى ان هؤلاء لم يكونوا على علم مسبق بوجود حزام ناسف مع العاصي، بدليل ان عناصر الاستخبارات كانوا بانتظاره في المقهى بشكل متخف، ولم يبادروا الى توقيفه فورا، بل طلب فنجاناً من القهوة، ثم لوح شوكولاتة، (المقهى من مقاهي «الخدمة الذاتية» اي يدفع ثمن الطلب مسبقا ويتولى الشخص ايصال طلبه الى الطاولة) اي ان الانتحاري قام مرتين بالتجول داخل المقهى لتأمين طلباته وتحادث مع الموظفين قبل ان يهم لاجراء اتصال هاتفي عند ناصية الشارع التي هي جزء من المقهى، وعند محاولة الدخول انقض عليه عناصر الاستخبارات بزيهم المدني...

هذه المعطيات تشير الى العديد من الاستنتاجات، اولها وجود شكوك في ان يكون هدف الانتحاري مقهى «الكوستا»، وهذا ما تركز عليه التحقيقات، فعاصي قد اخذ وقته داخل المقهى ولو اراد تنفيذ عمليته هناك فلماذا تأخر عن ذلك؟ هل وجد ان عدد الرواد قليل فقرر تأخير التنفيذ؟ هل تراجع فجأة عن تنفيذ ما هو مكلف به؟ ام كان ينتظر «ساعة الصفر» للانتقال الى المكان المحدد للعملية؟     

ثانيا، «برودة» تعامل الاجهزة الامنية مع العملية تشير بوضوح الى وجود نقص معلوماتي في مكان ما حول طبيعة ما كان ينوي العاصي القيام به، وهذا ما يطرح سؤالا بديهيا عما اذا كان ثمة معلومات مسبقة عن نيته تنفيذ عملية انتحارية؟ فسيناريو العملية الامنية والتخطيط الجيد والتنفيذ المتقن لها يشير بوضوح الى ان المعلومات حول هذا الخطر الامني لم تكن «بنت ساعتها»، بل كان واضحا ان «مصيدة امنية» محكمة قد نصبت للجاني، وكانت العملية «نظيفة» وناجحة بدليل امرين : الاول عدم السماح للانتحاري بتفجير نفسه، والامر الثاني، القبض عليه وهو على قيد الحياة، وهذا الامر يشير الى مهنية عالية واحترافية لدى استخبارات الجيش... لكن كل هذا حصل بأعصاب باردة ملفتة، فالهدف سبق ووصل الى المقهى ولو كان ثمة علم مسبق بانه انتحاري لما كان سمح له بالوصول اصلا الى هدفه، بل كان قضي عليه في «نقطة صفر»، اما قبل انطلاقه، او بعد انطلاقه لكن قبل الوصول الى الهدف... وبعد وصوله الى المقهى انتظر عناصر الاستخبارات معه في مكان واحد، وقتا كافيا ليتخذ القرار بتفجير نفسه، ولو اراد ذلك لفعل، وكانوا في خطر شديد في تلك اللحظات، ولذلك يذهب الاستنتاج الحاسم الى عدم معرفة مسبقة بنيات الانتحاري... وهنا تسجل نقطة لمصلحة افراد قوة الاستخبارات المكلفة بالمهمة حول كيفية تعاملهم مع هذا الخطر غير المتوقع ونجاحهم الباهر في السيطرة على الارهابي قبل تفجير نفسه..

وتلفت تلك الاوساط، الى ان التغيير النمطي في اهداف العمليات يعد تحولا كبيرا في مسار المجموعات الارهابية، فاستنساخ هجوم رينا في اسطنبول، وقبله الهجمات في باريس، ومحاولة تنفيذه في احد اهم شوارع بيروت التجارية والسياحية، بعيدا عن مناطق الاستهداف السابقة، يشير الى اننا امام مرحلة جديدة من الاستهداف الامني التي تحتاج الى مقاربة مختلفة مع هذا الملف، خصوصا ان «استنساخ» عملية نيس وبرلين ممكن ومتوقع ايضا، وفي هذا السياق تدرك الاجهزة اللبنانية المعنية جيدا ان الجماعات الارهابية انتقلت الى مربع جديد من الاستهداف، وما حصل من اجراءات امنية ناجحة خلال عيد رأس السنة وما حكي عن احباط عمليات كان مخططاً لها، يشير الى وجود معلومات مسبقة عن تغيير استراتيجي في الاسلوب والاهداف، ولم تعد المناطق المحسوبة على حزب الله، وحدها في دائرة الخطر... فما هو المطلوب لمواجهة هذه المخاطر؟

في رأي تلك الاوساط، الامر يتطلب تعاونا اكثر فعالية بين الاجهزة الامنية، التعاون بين فرع المعلومات واستخبارات الجيش في عملية «كوستا» اقتصر على الناحية التقنية، وقد تم الامر بسلاسة تامة بعد تنسيق على اعلى المستويات من قبل كبار قادة الجهازين... لكن ما هو مطلوب اكثر من ذلك، وثمة توجه لرفع مستوى التنسيق الى حدود التكامل، وايجاد صيغة موحدة لتوحيد الجهود في مكافحة الارهاب، تكون آلياتها محددة ومقوننة، وهو امر سيحاول الرئيس ميشال عون تحويله الى امر واقع.. كذلك المطلوب رفع «الحمايات» السياسية عن بعض الاشخاص في الشمال والجنوب والبقاع، وليس مجموعة احمد الاسير فقط، خصوصا ان الكثير من الملفات الامنية للكثير من المتورطين في هذه الظاهرة بقيت عالقة بسبب تداخلات سياسية معروفة المصدر، ولو كانت الاجهزة الامنية قد القت القبض على العاصي «غير متلبس»، لكانت «قامت الدنيا» ولم تقعد حتى الان على الرغم من انه يحمل كل مواصفات المشبوهين، كان من انصار احمد الاسير وعمل «كمسعف»في مسجد بلال بن رباح، لم يشارك في معارك عبرا لانه كان قد اصيب قبل اسبوعين في مواجهة قيل انها مع سرايا المقاومة في صيدا، وتبين الان انه بات «داعشيا».

ووفقا للمعلومات فان المرحلة المقبلة ستضع الاجهزة الامنية امام تحد جديد، ثمة قرار جدي «بنفض الغبار» عن ملفات كثير من الاشخاص كانت تحت «مظلة» بعض السياسيين، الارهاب يطور اداءه، وهذا يحتاج الى تطور نوعي في المقابل، هذا القرار الامني يجب ان يواكبه قرار سياسي بتحرير القيادات الامنية من «ابتزاز» السياسيين الذين يقفون على «ابواب» الانتخابات ولديهم اولويات مختلفة عن قادة الاجهزة الامنية التي يحاول بعض النافذين «ابتزازهم» بملف التعيينات، ولذلك فان الانطلاق الجدي في «ورشة» امنية شاملة وفاعلة يقتضي انجازاً سريعاً للتعيينات الامنية وقراراً سياسياً برفع الغطاء عن اي مشتبه فيه بالارهاب، لتنتطلق حينها الحرب الحقيقية ضد الارهابيين...


أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024