منذ سنتين | لبنان / الأخبار

يقف اليوم عمال لبنان في مواجهة أعتى وأخبث مشروع يقوده تحالف السلطة ــــ رأس المال. فبدلاً من تصحيح أجور العاملين في القطاعين العام والخاص لتغطية الخسائر التي تكبدوها نتيجة السلوك اللئيم الذي قاده حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لإطفاء خسائر مصرف لبنان والمصارف، سيمنّ عليهم التحالف بـ«مساعدة» مالية مؤقتة لا تُحتسب ضمن تعويضات نهاية الخدمة، إلى جانب إجراءات أخرى لا تدخل في صلب الراتب. المشكلة أن القوى الاجتماعية المعنيّة بخوض هذه المعركة هي جزء من هذا التحالف.
 

بعقل بارد ولئيم، تجري مقاربة تدهور القدرة الشرائية للعاملين في القطاعين العام والخاص. تحالف السلطة ــــ رأس المال لا يتعامل معها كحقّ مكتسب لتعويض الأجور ما فقدته بنتيجة تضخّم الأسعار وغلاء المعيشة، بل بوصفها «مكرمة» ويسمّيها «مساعدة». بالنسبة إليه، هي مسألة ظرفية وطارئة تستدعي إقرار «مساعدة» رغم مضيّ سنتين على الانهيار وتداعياته الكارثية التي أفقدت الليرة نحو 93% من قيمتها ورفعت سعر الدولار مقابل الليرة 13.6 ضعفاً، وضخّمت الأسعار بنسبة 473% منذ كانون الثاني 2019 لغاية أيلول 2021. كما يتغافل عن هجرة آلاف الموظفين من القطاعين العام والخاص إلى خارج لبنان بحثاً عن عمل وأمان وظيفي واجتماعي، ليوحي بأنه قدّم شيئاً على مشارف اتفاق مع صندوق النقد الدولي لا يُتوقّع منه إلا زيادة الضرائب وتقليص القطاع العام، وعلى بعد أشهر من الانتخابات النيابية التي تمثّل فرصة له لإعادة إنتاج نفسه على حساب المال العام. مشروع كهذا في لبنان حيث يتحوّل المؤقت والظرفي إلى دائم، يعني السطو على مستقبل العمال من خلال مصادرة حقّهم المكتسب في استعادة قدرتهم الشرائية، ونهب تعويضاتهم المستقبلية.


وعلى ما يبدو، هناك شبه اتفاق بين أصحاب الرساميل وقوى السلطة على ألّا يكون هناك تصحيح للأجور، بل أن يقتصر الأمر على «مساعدة اجتماعية» يحصل عليها العاملون في القطاعين بنسبة محدودة ولفترة مؤقتة تتزامن مع إجراءات إضافية على النحو الآتي: زيادة بدل النقل إلى 60 ألف ليرة في القطاعين، مضاعفة المنح التعليمية في القطاع الخاص. وهناك بحث في إجراءات إضافية تتعلق بزيادة التعويضات العائلية.
حالياً، هناك اعتراضات على حجم هذه «المكرمة» سواء لجهة نسبة المساعدة التي سيحصل عليها القطاع العام كنسبة من أصل الراتب، أو بدل النقل ليكون عدداً معيناً من صفائح البنزين، بدلاً من أن يكون مبلغاً يومياً مقطوعاً.
لكن ليس هناك بوادر معركة بين طرفين طالما أن الطرف الأضعف قراره مصادر من الطرف الأقوى. العمال الذين يُفترض أن يدافع عن حقوقهم، هم الآن رهائن. في القطاع الخاص هم رهينة الاتحاد العمالي العام الذي انبطح سلفاً أمام هيئات أصحاب العمل بقيادة محمد شقير و«بوطته». وفي القطاع العام هم رهينة نيات قوى السلطة وممثليها من وزارة المال إلى مصرف لبنان ومجلس النواب والحكومة. بمعنى آخر، القوى الاجتماعية المعنية بمعركة الدفاع عن الحقوق المكتسبة وتعويض غلاء المعيشة، هي جزء من تحالف السلطة ــــ أصحاب الرساميل.
ثمة كثير من الأدلّة على ذلك، على رأسها سلسلة اجتماعات كان محورها العاملون في القطاع الخاص، عُقدت في وزارة العمل والاتحاد العمالي العام ورئاسة الحكومة:
ــــ قبل فترة وجيزة، دعا وزير العمل مصطفى بيرم لجنة المؤشّر إلى الانعقاد. يومها سارع رئيس هيئات أصحاب العمل محمد شقير على رأس وفد للمساومة على آمال العاملين بتصحيح الأجور، طالباً في المقابل نهش تعويضات العمال. وفي الوقت نفسه، سارع شقير و«بوطته» نفسها، إلى زيارة وزير المال يوسف الخليل، لتقديم طلب مماثل يضاف فوق طلبات متعلقة باستثناءات ضريبية.

ــــ قبل أيام، عُقد اجتماع موسّع بين هيئات أصحاب العمل مع مجلس قيادة الاتحاد العمالي العام تطرّق إلى مسألة تصحيح الأجور. يقول أحد المشاركين في الاجتماع إن شقير رفض تصحيح الأجور في المرحلة الحالية ووافق على أن يمنح العاملين في القطاع الخاص مساعدة مقطوعة في انتظار انعقاد لجنة المؤشر وتوصل أعضائها إلى اتفاق على نسب التصحيح على الحدّ الأدنى للأجور. لكن شقير لمّح لقيادة الاتحاد برئاسة بشارة الأسمر إلى أنه موافق على رفع الحدّ الأدنى إلى مليون و750 ألف ليرة، وزيادة بدل النقل إلى 60 ألف ليرة وتوحيده مع القطاع العام، ومضاعفة المنح التعليمية. الأسمر وافق سريعاً من دون نقاش. فهو ليس مفاوضاً باسم العمّال، بل باسم قوى السلطة التي يمثّلها مع مجلس قيادته في الاتحاد.
ــــ أمس، زار الأسمر وشقير رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لإبلاغه اتفاقهما بحضور وزير العمل.
المشكلة في طروحات أصحاب العمل تكمن في أن القطاع الخاص أصلاً تجاوز هذه الزيادة الهزيلة التي اتفق عليها شقير ــــ الأسمر، بينما جوهر الأمر يكمن في المقايضة التي يتآمر عليها كلهما. فهما يريدان من العامل أن يخسر، فوق كل ما خسره من قدرته الشرائية، القسم الأهم من تعويض نهاية خدمته. إذ إن إعفاء أصحاب العمل من تسويات نهاية الخدمة يعني تقليص التعويض على حساب زيادة أرباح أصحاب العمل. و«المساعدة» المطروحة لا تدخل في أساس الراتب، بل يرجح أن يُدسّ فيها بند قانوني لإعفائها من أي ضريبة بما فيها اشتراكات الضمان الاجتماعي. وفوق ذلك، فإن زيادة بدل النقل لا تدخل في تعويض نهاية الخدمة، ولا المنح التعليمية أيضاً. بمعنى آخر، المقايضة المعروضة هي الـ«مساعدة» الآنية والهزيلة جداً، مقابل التنازل عن تعويضات المستقبل. وحرمان الضمان الاجتماعي من اشتراكات هو في أشدّ الحاجة إليها.
هنا، يظهر تحالف رأس المال ــــ قوى السلطة بأبشع صوره مع الانتماء السياسي لشقير وزمرته، وولاءات الأسمر ومن حوله، ومباركة ميقاتي لاتفاقهما الذي جاء بعد وقوف الدولة متفرّجة على صرف العمال من وظائفهم. من بقي في مؤسسات القطاع الخاص هم الذين لم يتمكن أصحاب العمل من الاستغناء عنهم لأنهم يمثّلون حاجة إليهم ويقومون بوظائف مولّدة للأرباح. وغالبية المؤسسات، إن لم يكن كلّها، عمدت خلال السنتين الماضيتين إلى رفع أسعارها بما يتناسب مع تطورات سعر الصرف أو بنسبة موازية لتضخّم الأسعار، أي أنها حافظت على رساميلها وعلى أرباحها أيضاً، وبالتالي هم قادرون على تحمّل أي زيادة حقيقية ومنطقية على الأجور. هذه معركة يمكن خوضها، لكن الأسمر ومن حوله قرّروا التنازل عنها مسبقاً. لم يكن ينقص الثنائي شقير ــــ الأسمر، إلا أن يطلب من مؤسسات القطاع الخاص استرجاع الزيادات التي منحتها لعمالها.
أما في ما يخصّ القطاع العام، فهناك اقتراح قانون مطروح من نواب التيار الوطني الحر يميّز بين فئات موظفي القطاع العام لمنحهم نسباً مختلفة تتدرّج من 25% للقضاة وموظفي الفئة الأولى والضباط العامين، إلى 45% لموظفي الفئة الخامسة والأفراد، على أن تكون هذه المساعدة لمدّة سنة واحدة وبكلفة إجمالية تبلغ 1960 مليار ليرة للعاملين في الإدارة العامة، و713 مليار ليرة للمتقاعدين، و261 مليار ليرة للعاملين في المؤسسات العامة أو ما مجموعه 2934 مليار ليرة. كذلك يتضمن المشروع زيادة «بدل النقل اليومي المؤقت» لمدة خمسة أشهر بكلفة 51 مليار ليرة إضافية.

أمس، نوقش هذا الاقتراح في لجنة المال والموازنة وأثار نقاشاً بين الكتل النيابية لجهة شموله لكل موظفي القطاع العام بمن فيهم الجامعة اللبنانية وعمال البلديات والمؤسسات المستقلة كمؤسّسات المياة والكهرباء وأوجيرو، علماً بأن هذه المؤسسات بدأت تهدّد بالإضراب في حال لم تكن مشمولة. النقاش دار حول توسيع دائرة المستفيدين وكلفتهم على الخزينة، إذ قد تصل الكلفة الإجمالية إلى 4500 مليار ليرة، ما يزيد عجز الخزينة ويتطلب البحث عن موارد تمويلية. كذلك، ناقش ممثلو السلطة في لجنة المال احتمال الربط بين هذه «المساعدة» وشمول موظفي القطاع العام بالبطاقة التمويلية باعتبار أن إقرار البطاقة قد يلغي مشروع «المساعدة».

في المقابل، هناك مشروع معدّ في وزارة المال يفترض أن يكون وزير المال قد تبنّاه في مواجهة مشروع التيار، يتضمن زيادة 50% من أصل الراتب ومبلغاً مقطوعاً بقيمة مليوني ليرة، وتحويل بدل النقل إلى صفائح بنزين بدلاً من المبلغ المقطوع.

وفيما الجميع في انتظار أرقام وزير المال المتّصلة بهذه المساعدة وكلفتها على الخزينة وطرق تمويلها، ما زالت قوى السلطة تروّج بأن سلسلة الرتب والرواتب هي التي خلقت الأزمة الراهنة. لكن الوقائع تشير إلى أن الأزمة انفجرت في القطاع المصرفي الذي كان أول من توقف عن الدفع في منتصف عام 2019 يوم بدأ الامتناع عن تسديد الودائع كاملة لأصحابها. هذا هو مصدر الأزمة التي انفجرت، فيما أدى تعامل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة معها الى تعددية أسعار الصرف ودفع الأسعار إلى التضخّم وأطلق دينامية تدميرية للمجتمع بكل مدخراته وأصوله. وحصل ذلك كله بمساندة قوى السلطة.







أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024