منذ ارتفاع وتيرة التعبئة السياسية والاعلامية من قبل بغداد وواشنطن بشأن تحرير الموصل، بدأت ترتسم أسئلة في غير مكان حول مآلات إنهاء وجود "داعش" في المدينة".

وقد أثيرت أسئلة حول الوجهة التي سيسلكها عناصر التنظيم سواء في حالة الهروب القسري بسبب خسارة مواقعهم من جراء الهجوم البري، أو في حالة الانسحاب الذي سينجم عن شراسة الهجوم وعنف القصف الجوي والمدفعي الذي سيتعرضون له؟

لكن هذه الأسئلة والاستفسارات ظلت شبه معلقة ومن دون بحث دقيق يمكن أن تنجم عنه أجوبة محددة إلى أن بدأت العمليات العسكرية المشتركة قبل أيام قليلة. فقد اتسعت دائرة الحديث عن أن الوجهة الوحيدة التي ستكون أمام عناصر التنظيم هي الأراضي السورية، وتحديدا محافظة دير الزور شرق البلاد المحاذية للعراق من جهة الغرب، والتي يسيطر عليها تنظيم "داعش" سيطرة كاملة باستثناء أربعة أحياء منها ومطارها العسكري-المدني ومحيطه، والتي تخضع لسيطرة الدولة السورية وجيشها.

وهذه المحافظة بريفها المترامي الأطراف بأربعة اتجاهات تقارب مساحتها زهاء اثني عشر ألف كيلو متر مربع، وهي محاذية بل ومتداخلة في حدودها الإدارية شمالا مع مدينة الرقة التي يسيطر عليها التنظيم الإرهابي بالمطلق ويعدُّها عاصمة له.

ولعل ما أسهم في رفع منسوب القلق لدى الطرف السوري وحلفائه من احتمال تدفق عناصر "داعش" الى أراضيهم هو الحديث الذي شاع عن وجود ممرات ومساحات شاسعة من أراضي الموصل غربا، والتي تتداخل مع الحدود السورية الشرقية باتجاه محافظة دير الزور، ظلت من دون أي وجود عسكري من قبل القوات العراقية أو الأمريكية أو التركية المرابطة هناك. وبدت وكأنها خارج خطة تحرير الموصل كما هو الحال بالنسبة للاتجاهات الثلاثة الأخرى للمدينة. بمعنى أن تلك الدول أوحت لمسلحي "داعش" بطريقة متواطئة بهذا الهامش الواسع من الأراضي غرب الموصل لكي يكون معبرهم عند التراجع، فلا هم يحاصرونهم داخل الموصل لقتلهم وإبادتهم عن بكرة أبيهم، ولا هم يقاتلونهم في هذا المحور لفرض الاستسلام عليهم وأسرهم إن بقي منهم أحد.

وفي ظل الثقل الذي يمثله وجود التنظيم في سوريا وتحديدا شرقها (دير الزور) وشمالها الشرقي (الرقة)، فإن الحديث عن هذا السيناريو المحتمل يتطلب بداية إلقاء نظرة على أهمية هاتين المحافظتين، دير الزور والرقة، جغرافيا وعسكريا وأمنيا وإقليميا، لمجمل الأزمة السورية وتبعاتها وتشعباتها الداخلية والإقليمية من جهة، وما يسعى الآخرون لتحقيقه من أهداف من جراء هذه الأزمة، وإلى أهميتهما بالنسبة إلى تنظيم "داعش" راهنا ومستقبلا من جهة أخرى.

تشكل مساحة المحافظتين بريفيهما ما يقارب ربع مساحة سوريا، وهما محافظتان غنيتان بالثروات الباطنية كالنفط والغاز في دير الزور، والثروة الحيوانية والزراعة وتوليد الطاقة في الرقة؛ حيث يوجد أضخم سد على نهر الفرات في مدينة الثورة (الطبقة سابقا) التابعة للرقة بناه الخبراء الروس إبان العهد السوفياتي في سبعينيات القرن الماضي؛ حيث يمر نهر الفرات في دير الزور قادما من الرقة، ويحاذي نهر دجلة حدود الرقة شمالا، ويشكلان أغزر تدفق للماء من تركيا يغذي الأراضي الزراعية الشاسعة المروية في تلك المدينتين. وبينما تلاصق حدود دير الزور الشرقية الأراضي العراقية من الجنوب باتجاه خط بغداد فالبصرة ومن الشرق باتجاه الأنبار ومن الشمال باتجاه الموصل، فإن شمال محافظة دير الزور يلاصق حدود محافظ الرقة ويتداخل معها. وبالتالي، فإن سيطرة التنظيم على هاتين المحافظتين يمنحه القدرة على الاستفادة من توسيع دائرة نفوذه إلى مناطق أخرى علاوة على ميزة الحركة باتجاه حدود دول مجاورة سواء في الشرق المتمثلة بالعراق أو عبر الشمال المتمثل بتركيا. ويضاف إلى ذلك أن الامتداد الصحراوي لمحافظة دير الزور وتحديدا إلى جهة الجنوب الشرقي يعني وصول التنظيم إلى معبر التنف الحدودي مع العراق، والذي يقابله من الجانب العراقي معبر الوليد، وهي نقطة حدودية مشتركة تبعد عن العاصمة السورية دمشق نحو 360 كيلومترا. كما يمكن لها أن تؤمن لمن يسيطر على تلك النقطة فرصة الوصول إلى حدود الأردن من الشمال الشرقي للأردن. وبناء على ما تقدم، يمكن الحديث عن بعدين في هذا السيناريو: الأول يتمثل بدلالات دخولهم إلى الأراضي السورية،والثاني التحديات التي يفرضها هذا الدخول؟

في البعد الأول، تبرز الدلالة الأساسية المتمثلة في زيادة عدد عناصر التنظيم إلى عشرات الألوف حين يلتحقون بمن هم موجودون في سوريا، وهذا سيشكل عنصر تعقيد قد يكون الأخطر في سياق ومسارات الأزمة السورية وتحديدا للدولة السورية ومن خلفها حلفائها الإقليميين والدوليين، فضلا عن التحدي الذي سيبرز أمام فصائل المعارضة السورية المسلحة التي تناهض فكر "داعش" وخصوصا في حلب وجارتها إدلب. إذ من غير المستبعد أن يشكل الثقل الداعشي في الرقة وخطوط إمداده الخلفية في دير الزور ضغطا على تلك الفصائل ينتج حالة من الاحتراب الثنائي قد تطول سنين وربما عقودا مع كل ما تحمله من مآس ودمار وهدم لبنى الدولة السورية ومجتمعها، وبالتالي تأجيل إن لم يكن استحالة بلورة حل سياسي في البلاد.

أما في البعد الثاني المتمثل بالتحديات التي سيفرضها هذا السيناريو، فمن المرجح ألاَّ يقف عند حدود الدولة السورية ومجتمعها فحسب، بل سيتجاوزها إلى دول أخرى مثل تركيا التي أعلنت رسميا على لسان رئيسها رجب طيب أردوغان بأنها ستعلن قريبا منطقة آمنة في شمال سورية على مساحة خمسة آلاف كيلومتر مربع. وفي حال تنفيذها فستكون على تماس مع خطوط تنظيم "داعش" من جهة الرقة، وستبقى على تماس مباشر مع هذا التنظيم بحكم انخراطها في الحرب السورية عبر دعمها للفصائل المسلحة. وليس بعيدا أن يفرض هذا التحدي نفسه على حلفاء دمشق مثل إيران وروسيا مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلاف الواسع الذي تفرضه هذه التحديات على كل من الجانبين؛ فإيران بوجودها المحدود جغرافيا وقتاليا لا تمثل سوى نسبة ضئيلة مقارنة بالدور الروسي الميداني والسياسي والدبلوماسي الذي تأخذه على عاتقها بسبب الأزمة السورية، إضافة إلى أنها دولة عظمى ودائمة العضوية في مجلس الأمن، وأنها تعهدت بمكافحة الارهاب في سوريا حتى اجتثاثه.

من هنا يمكن القول إن الموصل هي محطة أولية لسيناريو يتم رسمه من قبل بعض الأطراف التي لا تريد استقرارا لسوريا أو للمنطقة. بل يبدو أنها تريد تعميق استنزاف خصوم لها أشداء عبر هذه البوابة بعد الانتهاء من قصة تحرير الموصل من "داعش".

بيد أن السؤال الذي لا يجد جوابا حتى الآن هو: لماذا لا يتم قصف طوابير تنظيم "داعش" وفلوله الهاربة من الموصل باتجاه الأراضي السورية، وخاصة أن المساحات الشاسعة من تلك الأراضي عبارة عن أرض منبسطة لا وجود لتضاريس جبلية فيها؟!


أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024