على الرغم من الاتفاق "الحذر" بين واشنطن وموسكو حول سوريا، إلا أن غالبية التقارير التي صدرت حول هذا الأمر تشير إلى أن فرصه في الحياة كانت محدودة.

واعتبرت هذه التقارير أن التوصل إلى اتفاق بين روسيا والولايات المتحدة، ربما يكون آخر نشاطات روسيا في نهاية عامها الأول من تواجدها العسكري في سوريا والذي بدأته في 30 سبتمبر/ أيلول 2015.

بنهاية سبتمبر الحالي، أكملت القوات الجوية الروسية عاما من تواجدها على الأراضي السورية. وخلال هذا العام جرت مياه كثيرة في النهر، بحيث أصبحت روسيا جزء أساسيا وطرفا رئيسيا في المعادلة، وأصبح من الصعب عليها الخروج من هناك دون تحقيق جملة من الأهداف التي تتعلق بمصالحها، على الرغم من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان قد أعلن قبل 6 أشهر تقريبا عن سحب جزئي لبعض القوات. ولكن كل المؤشرات تؤكد أن الرضى الأمريكي – الأوروأطلسي عن دخول القوات الجوية الفضائية الروسية في سوريا كان يهدف بالأساس إلى "توريط موسكو"، أو على الأقل إهدار مواردها، ومن ثم تحييدها أو تحويلها إلى لاعب من الدرجة الثانية هناك. وذلك بوضعها في مواجهات فرعية أو دق أسافين بينها وبين لاعبين إقليميين في المنطقة.

الصدام البارد بين روسيا وتركيا لم يسفر عن تحولات دراماتيكية أو صدامات عسكرية بين البلدين. بينما أسفر الانقلاب في تركيا عن تقارب شكلي بين موسكو وأنقرة. وتصوَّر البعض أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خضع للأمر الواقع وذهب إلى موسكو زاحفا من أجل الاعتذار وإعادة العلاقات. كما تصور آخرون أن تركيا التفت على الواقع بتقاربها مجددا مع روسيا، ومن ثم خدعتها ونفَّذت سيناريو التدخل العسكري في سوريا. ولكن لا هذا البعض ولا ذاك البعض الآخر استطاع أن يدرك نقطة التماس التي تتلخص ببساطة في احتياج موسكو وأنقرة إلى بعضهما البعض بنتيجة عوامل كثيرة، منها الاقتصادي، ومنها الجيوسياسي، ومنها المتعلق بوضع البحر الأسود، ومنها المرتبط أصلا بمشروعات الطاقة. بمعنى أن هناك رصيدا من العلاقات المهمة التي تحقق مصالح البلدين لا يمكن شطبه بسهولة نتيجة مؤامرات أو أسافين سياسية. وكما استخدمت روسيا هذه الورقة، استخدمتها أيضا تركيا العضو المهم في حلف الناتو، وفي التحالف الدولي بقيادة واشنطن.

ورغم الخلافات حول الأزمة السورية بين موسكو وأنقرة، نجحت الدولتان في ترسيخ معادلة مهمة، كان البعض يعوِّل على فشلها، ومن ثم ضرب روسيا بتركيا، وتحويل الاثنين إلى لاعبين من الدرجة الثانية أو الثالثة، واستنفاد طاقتهما في مواجهة بعضهما البعض من جهة، ومبادلتهما بلاعبين آخرين في المنطقة من جهة أخرى. لكن لم يحدث لا هذا ولا ذاك. إذ رسَّخت روسيا مواقعها، وتمكنت تركيا من امتلاك أوراق مناورة للتعامل مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في ملفات شائكة تثير قلق أنقرة.

يبدو أن الولايات المتحدة لم تنجح في استثمار كل التناقضات الممكنة، بما فيها التناقضات بين روسيا وتركيا بالذات، وبالتالي، لم تتحول واشنطن إلى ورقة "جوكر" مهمة ليس فقط للطرفين، وإنما لمجمل أطراف التسوية السورية في الداخل والخارج. بل وفشلت أيضا في دفع كل من موسكو وأنقرة إلى القيام بأدوار ثانية لا يمكن أن تتم أو تكتمل إلا برضى واشنطن ومساعدتها. من هنا تحديدا، فشلت "الهدنة الهشة" التي جاءت عقب اتفاقات روسية – أمريكية في جنيف في 9 سبتمبر/ أيلول 2016، وأصبحت هذه الاتفاقات من آثار الماضي، على الرغم من أن هناك آمالا لدى بعض الأطراف من إحيائها أو مواصلتها عبر طرق أخرى.

لقد تمكنت روسيا بدرجات ملموسة من تحقيق أحد أهدافها، ألا وهو محاربة الإرهاب، أو على الأقل حصاره لقطع الطرق أمامه، منعا لوصوله إلى أراضيها. هذا على الرغم من التصريحات "الحمقاء" التي أدلت بها الخارجية الأمريكية، وهددت فيها روسيا بإمكانية تعرض مدنها وجنودها وطائراتها للإرهاب. وبالرغم أيضا من محاولات تغذية الإرهاب ودفعه إلى حدود روسيا من جهة، والسعي إلى حصارها اقتصاديا عبر القيود والعقوبات من جهة أخرى، والتهديد بفرض عقوبات جديدة.

وتمكنت روسيا أيضا من الحفاظ إلى الآن على وحدة الأراضي السورية على الرغم من وجود أطراف عديدة مسلحة على الأراضي السورية يرغب كل منها في اقتطاع نصيبه وإعلان دولته، إضافة إلى التدخل العسكري التركي في سوريا، وهو الأمر الذي أفسد جزءا من رهانات وسيناريوهات الولايات المتحدة نفسها. وبالتالي، وقفت روسيا مع مبدأ عدم تفتيت أراضي الدول والحفاظ على وحدة أراضيها، وخاصة في ظروف مكافحة الإرهاب والتدخل الخارجي الذي يتعارض مع مبادئ القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة. ولكن يبدو أن لكل طرف مفهومه وتفسيره ورؤيته لمسألة مكافحة الإرهاب والتدخل الخارجي، وتأويله لمبادئ القانون الدولي.

إن تحقيق هذين الهدفين، والفشل في تحييد روسيا، تسببا بدرجة أو بأخرى في تراجع واشنطن عن اتفاقات جنيف حول سوريا، وعودة الأمور إلى مربعاتها الأولى ولكن "بدرجات حرارة أعلى"، واستعدادات لتنفيذ سيناريوهات الأرض المحروقة. وهو الأمر الذي يثير قلق كل دول العالم باعتباره مغامرة أو رهانا خاسرا قد يتسبب في خسائر دولية وبشرية وإهدار موارد على نطاقات واسعة. بمعنى أنه شبيه بالحرب الواسعة التي لا نستطيع أن نصفها بحرب عالمية ثالثة، ولكننا في الوقت نفسه لا نجد توصيفا آخر لنتائجها وآثارها وتداعياتها التي تمس دولا ومناطق كثيرة. وبالتالي، فالسنة الثانية للوجود الروسي في سوريا تبدأ من نقطة غليان جديدة، تستعد فيها الولايات المتحدة مع حلفائها لإرساء متغيرات جديدة، تمهيدا لصياغة معادلة غير محمودة العواقب.

ومع كل ذلك، ورغم عدم رضى أطراف كثيرة في داخل سوريا وخارجها عن "الاتفاقات الروسية – الأمريكية"، ورغم فشل هذه الاتفاقات أو تجميدها، يظل الحل السياسي يتصدر أجندات كل الأطراف الكبرى، حتى وإن كانت الآليات مختلفة. ويبدو فعلا، من تصريحات موسكو وواشنطن وبعض الأطراف الإقليمية الرافضة للاتفاقات في الخفاء أو العلن، أن هناك تأويلات وتفسيرات متناقضة ومتباينة لمصطلح "التسوية السياسية". وهو ما ظهر، وما يظهر، وما سيظهر على أرض الواقع. ويبدو أيضا أن الولايات المتحدة وتحالفها يعولان على استمرار الأزمة السورية لعدة سنوات أخرى مع حفاظهما على إعلان "التسوية السياسية" كواجهة تخفي فكرة "حسم الميدان" والتي يتفق معهما فيها بعض الأطراف المصممة على "الحسم العسكري".

ويبقى فقط الانتظار للوقوف على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وكيف ستتعامل الإدارة الأمريكية الجديدة مع كل من إيران والسعودية بشكل عام، وفي ضوء إمكانية تطبيق قانون" جاستا" على السعودية تحديدا، وكيف ستكون الاصطفافات الجديدة في المنطقة.


أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024