منذ 5 سنوات | ثقافة / نصف الدنيا

 

الإنسان كائن اجتماعي.. قالها الفلاسفة منذ قديم الزمن في إشارة ليس فقط لمهارات هذا الكائن مع من حوله وإنما أيضا تأكيدا لأن استقراره وسعادته لا تكتمل تجربتها سوى بعلاقات صحية مع من حوله. وإذا كان الخوف من مسميات عديدة لها وقعها كالموت والحرب والمرض مثل هاجسا لعديدين إلا أن الوحدة والاغتراب هما الهم الذي يؤرق العديد من المجتمعات الآن، خاصة مع تزايد متوسط عمر الإنسان فى المجتمعات الغربية, ومع ثقافة الـ"أنا" التى رسخت لحياة لا يقبل المرء فيها أن يضحى بوقته ومصلحته الآتية من أجل غيره.

قد يبدو عالم اليوم زاخرا بالعلاقات، شديد الاتصال بعضه ببعض بسبب شبكات المعلومات ومواقع التواصل الاجتماعي، ولكن الحقيقة التي أصبح العالم يدركها أكثر فأكثر يوما بعد يوم هو أن ما سبق ذكره لم يؤد سوى لإحساس زائف بالتواصل مع الآخرين، يغلف في باطنه وحدة تتصاعد كلما انغلقنا على أجهزتنا ونسينا التواصل الحقيقي مع البشر.

نعيش في عالم ينقسم على نفسه، وإذا ما دققنا النظر في الصورة أكثر، لوجدنا أن ما يجمع الناس الآن أكثر من أي شىء هو إحساسهم بالوحدة.

في تقرير للـ BBCفي 2017، تبين أن 9 ملايين بريطاني تتراوح مشاعرهم بين الوحدة الدائمة والمزمنة، وأنه أكثر من أربعة آلاف طفل استنجدوا بخطوط المساعدة المتخصصة لشعورهم بالوحدة بشكل لا يحتمل.. وإذا كان تقرير كهذا لفت الأنظار بشدة في بلاده ،إلا أن ما انطوى عليه من خطورة ينطبق على أى مجتمع آخر.

ومن الوحدة ما قتل

تقول دراسات جامعة هارفارد الأمريكية إن الشعور المزمن بالوحدة له من التأثير الضار على الصحة ما يعادل تدخين 15 سيجارة يوميا، وأن أضراره تفوق أضرار السمنة المفرطة، ويقول نفس التقرير إن الوحدة تزيد بصورة رهيبة من احتمالات الإصابة  بأمراض القلب والجلطات وارتفاع ضغط الدم، وأنها تزيد من احتمالات الوفاة المبكرة بنسبة 26 %.

الوحدة هي مفهوم فلسفي تناوله الحكماء منذ القدم، ولكن لم يتم التنبه إليه مرة أخرى في سياقه الاجتماعي المعاصر سوى بداية من  منتصف الستينيات، واشتهر مع كتاب روبرت وايس: "تجربة العزلة العاطفية والاجتماعية".

ولكن دراسات الوحدة لم تبدأ بشكل موحد حتى 1978، عندما تم صنع مقياس لقياس مشاعر المرء الشخصية بالوحدة والعزلة الاجتماعية وذلك في  جامعة كاليفورنيا في  لوس أنجلوس.

الوحدة تعني أشياء مختلفة لمختلف الناس. يشعر بعض الناس بالوحدة عندما يقضون ليلة واحدة بمفردهم، وبعضهم يمضون شهوراً بأقل قدر من الاتصال ولا يشعرون بشيء.

هناك الكثير من العيوب الخطيرة لفترات الوحدة الطويلة، من الاكتئاب الحاد إلى الضرر الإدراكي الغير قابل للإصلاح. وفي دراسة، جمعت بيانات من مجموعة من الدراسات المستقلة ومن خلالها تمت متابعة المشتركين لمدة سبع سنوات. اكتشفت أن الناس الذين كانوا منعزلين اجتماعيا أو وحيدين أو يعيشون بمفردهم لديهم فرصة أكبر للموت بما يقارب 30 % خلال فترة الدراسة هذه من الذين كانوا على "اتصال منتظم اجتماعيا".

ولكن كيف تؤدى حالة شعورية مثل الوحدة إلى هذا الضرر الملموس على صحة البدن؟ تقول د. ستيف كول من جامعة كاليفورنيا إن الإجابة تكمن في التأثير على جهاز المناعة.

 الشعور الدائم والمزمن بالوحدة يؤثر على الجهاز المناعي وميكانيكية محاربة الفيروسات، ففي حين يتعامل الجسد مع الأضرار بوصفها بكتيريا، يفشل تماما في التعامل مع الفيروسات،  ويؤدي إلى أن يصاب الجسد بالالتهابات، وهذه الأخيرة هي رأس الأفعى والسبب الحقيقي وراء ظهور معظم الأمراض كالسرطان والاكتئاب والزهايمر والأزمات القلبية.

ليس هذا فحسب وإنما تؤثر الوحدة على الصحة النفسية والعقلية أيضا، فتبين الدراسات أن الوحدة المزمنة تجعل كيمياء المخ أكثر استعدادا لتصديق الأفكار المتعلقة بالميل إلى اضطهاد الآخرين للشخص أو معاداته، حتى لو كان الأمر عار من الصحة.

حتى النوم طالته الآثار السلبية للوحدة، ففي دراسة على ألفي شخص بجامعة كينجز كولدج تبين أن الذين يشعرون بالوحدة كانت مقدرتهم على النوم بعمق لساعات أطول أقل، وكان تركيزهم أقل من نظرائهم بنسبة 24 خلال اليوم.

ويختتم كول حديثه بجملة صريحة صادمة يقول فيها: الوحدة هي أكبر حالة مرضية يمكن أن نواجهها من حيث أثرها السلبي على صحة الإنسان.

ومع ذلك، لا تزال الوحدة مفهوما غامضا

هل ثمة مزايا للوحدة؟

في جامعة شيكاغو وباستخدام التصوير العصبي الكهربائي على مجموعة اختبار صغيرة، وجد علماء الطب النفسي أن الأشخاص الوحيدين أكثر انتباها لمحن الآخرين، خصوصا على مستوى اللاوعي وأن الناس الوحيدين لديهم قدرة أكبر على التعاطف.. كذلك يميل العديد من الشخصيات الوحيدة والمنعزلة لأن توصف بأنها عقول مبدعة وأكثر جاذبية.

ووجد الباحثون في جامعة جونز هوبكنز في بالتيمور أدلة على أن الناس يميلون لأن يكونوا أكثر إبداعا إذا كانوا مرفوضين اجتماعياً.

 اللافت للنظر هو أنه  ليس بالضرورة أن يحصل رفض اجتماعي حقيقي، يحتاج المبدع أن يشعر فقط بأنه مرفوض بطريقة ما.

يقول العلماء إن الإبداع ينبع من القدرة على إجراء اتصالات فريدة من نوعها، ليربط معاً معلومات متفاوتة. الإنسان الوحيد والمرفوض هو من يستطيع إنجاز هذا بشكل أفضل.

خطوات جادة

ولكن لا ينفي ما سبق ذكره أن الوحدة شعور بالغ الإيلام، وقد أدركت الشعوب المتحضرة أهمية هذا الأمر منذ زمن، ومثلما قامت دولة الإمارات العربية منذ سنوات بتعيين وزارة للسعادة، قامت بريطانيا بتعيين تريسي كراوتش البالغة من العمر 42 عامًا وزيرة "لمكافحة الوحدة" بعدما لوحظ تفاقم المشكلة.

 تهدف تلك الوزارة لدعم الروابط الاجتماعية بين الناس، ومساعدتهم على التغلب على الشعور بالوحدة الموحشة.

وفي تقرير تناول مشكلة الوحدة في مجلة "فوكاس" العلمية الصادرة عن الـ""BBC، قدم علماء النفس بجامعة كيمبردج نصائح  للتغلب على الوحدة وتفاديها، كان منها الآتي:

أولا تذكر دائما أن الشعور بالوحدة هو "شعور وإحساس" وليس بالضرورة حقيقة. هذا الشعور يلمس صاحبه بسبب موقف مثلا أو ذكرى، والمخ يتعامل معه كالآتي: لماذا أشعر بهذه الطريقة؟ هل لأن لا أحد يحبني؟ لأنني فاشل؟ أم لأن الناس سيئون؟ ثم يبدأ الدماغ بالخلط بين المشاعر وبين الحقائق. ثم تزداد المشكلة، لذلك يجب عليك الإدراك تماماً أن ما  تشعر به  هو مجرد شعور وعليك تقبله من دون المبالغة في رد الفعل. فالمخ مصمم على الانتباه للألم والخطر، وهذا يشمل مشاعر الخوف والألم النفسي، وبالتالي فالشعور بالوحدة يعمل على تنبيهه ولكن بعد ذلك يحاول فهم هذا الشعور، فلا تحمله أكثر مما يحتمل.

ثانيا، تأكد أن الإحساس هذا هو ما يسبب لك الارتباك ويدفعك إلى التفكير بأنك منبوذ أو فاشل أو أي من المشاعر السلبية الأخرى، ليس العكس، فرفضك لتحميل الإحساس أكثر مما يحتمل سيجعل عقلك بالتالي يرفض إقران تلك الصفات الأخرى السلبية بك.

بعد ذلك، عندما  تدرك أن الوحدة مجرد إحساس ينتابك وليس حقيقة  يجب أن تعيش معها، يمكنك وضع خطة واستراتيجية لمكافحة هذا الشعور، ومن أدواتها:

- التفاعل مع الأصدقاء وبذل بعض الجهد للوصول إلى الآخرين، حتى مع الإحساس بالاكتئاب.

- التركيز على احتياجات ومشاعر الآخرين - الاهتمام بمن حولك والإصغاء إليهم مع محاولة مساعدتهم في مشاكلهم

- البحث عن أصدقاء جدد يشعرون بنفس الشعور، فالاندماج مع مجموعات تفكر وتشعر مثلك يساعد الجميع على التآزر وتخطي المشكلة.

- تواصل مع من لهم اهتمامات مشابهة لاهتماماتك.  هذا الأمر أصبح أيسر بكثير مما سبق مع شبكات التواصل الاجتماعي، ولكن تذكر أن تلك الشبكات هي بوابة الوصول للآخرين، وأن الأهم هو التواصل معهم بالفعل على أرض الواقع.

- تذكر أن الكون له نواميس ومنها أن التجربة الإنسانية هي تجربة كونية

 فجميعنا يمر بنفس المشاعر، من فرح وحب، لخيبة أمل وغضب. فضع في اعتبارك أنك لست وحيدا أبدا حتى ولو كنت تشعر بذلك ومن هذا المنطلق، فكّر في الأشياء المتشابهة بينك وبين الآخرين. ينبع شعور الوحدة في غالبية الأحيان من فكرة أن تجربتك الخاصة مختلفة جذريًا عن تجارب الآخرين.

حتى أن تصرفا بسيطا مثل إلقاء التحية على جارك يمكن أن يساعدك في الشعور بالتواصل. ويمكن أن تدفعك تلك التصرفات البسيطة إلى صداقة طويلة الأمد.

- ابحث عن إلهامك من أفكار المتحدثين الخلاقة، ولا تحاكيها وإنما استق منها ما يمكن أن يلمس مشاعرك وبه تبدأ هواية أو شغفا أو دورة تدريبية.  الدورات التدريبية كثيرة وفي مختلف المجالات، يمكنك أن تسجل في إحداها وعندها ستتعلم شيئًا جديدًا، ستبدد وقت فراغك، وستتعرف على أصدقاء جدد.

- ابتعد عن تسلية نفسك بشبكات التواصل الاجتماعي مثل  الفيس بوك عند شعورك بالوحدة، ذلك العالم الافتراضي  هو أحد أسباب الوحدة، والسعي للاندماج بالعالم الحقيقي هو الحل وافعل ما أدركته الشعوب المتقدمة عندما رسخت أهمية التطوع. العمل التطوعي طريقة رائعة لتبديد وقت الفراغ، واكتساب أصدقاء جدد، والأروع من ذلك سيكون إحساسك بالسعادة لنشر الخير ومساعدة المحتاجين.

- عبر عن شعورك بالامتنان امتنانك تجاه شخص أو شيء ما يولد بداخلك طاقات إيجابية تؤدي لشعورك بالسعادة. جرب لمدة شهر أن تعبر عن امتنانك لشخص ما أو شيء ما.

- اشترك في أي نادٍ في مدينتك ففي النادي ستقضي وقت فراغك في ممارسة رياضة، أو المشاركة في نشاط، وستكون فرصة طيبة للتعرف على الكثير من الأصدقاء الجدد.

هناك من يشير إلى أن اقتناء حيوان أليف هو أحد أدوات تبديد الشعور بالوحدة.. ولا يزال موضوع الوحدة مليئا بمتسع لمزيد من البحث والإدراك، ولا يزال الوقت مبكرا لإغلاق هذا الملف للدارسين.

فاستعداد إنسان للشعور بالوحدة له أيضا جذر نفسي وجيني، والوحدة تختلف عن العزلة الاجتماعية. فهناك أشخاص تقل لديهم القدرة على ترجمة العلاقات بينهم وبين الآخرين بوصفها عميقة أو ذات معنى، فيشعرون بالعزلة الاجتماعية مهما كان عدد  ودوائر علاقاتهم.

في النهاية يجب أن نتذكر أن الذي يحدث فارقا حقيقيا ليس عدد الأصدقاء والمعارف الذين يحيط الإنسان نفسه بهم، وإنما وجود علاقة أو اثنتين من هذه العلاقات تتسم بأنها مخلصة وحقيقية وصادقة، وكما يقول أطباء علم النفس دوما: ما نحتاجه لاستقرار نفسي هو علاقة واحدة حقيقية وصادقة في حياتك، ليس أكثر.


أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024