تحول معبر الكاستيلو إلى حجر عثرة جديد في المشهد السوري ما بعد الاتفاق الروسي الأمريكي، ليضيف تعقيدا إضافيا على سيرورة التفاهم المنجز أخيراً بعد جولات ماراثونية شاقة من المفاوضات.

وتبدو قضية الكاستيلو كأنها دخلت في حلقة مفرغة، فالروس يطالبون واشنطن بالضغط من أجل انسحاب الفصائل المسلحة من المناطق المجاورة للطريق، والأمريكيون يطالبون الروس بالضغط على دمشق للإسراع بإدخال قوافل المساعدات، كشرط مسبق قبل الدخول في المرحلة الثانية من التفاهمات، أي تشكيل غرفة عمليات مشتركة للبدء بمحاربة الإرهاب سوية.

وكان الجيش السوري قد أخلى بموجب التفاهم بعض نقاط تمركزه على هذه الطريق الاستراتيجية، ثم اضطر أمس إلى العودة إلى مواقعه التي كان انسحب منها بطلب روسي، بعدما تعرض الممر إلى هجمات من المسلحين، حيث رصدت الصور الجوية تجمعات لهم وهم يستعدون ربما لاحتلاله.

المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع الروسية إيغور كوناشينكوف حمل الطرف الأمريكي مسؤولية الخرق، حيث أشار إلى أن "الفشل هو حليف جميع المحاولات التي يبذلها شركاؤنا الأمريكيون لإظهار ولو أدنى درجات السيطرة على معارضيهم. ورغم أن اتفاق وقف إطلاق النار في سوريا، ثنائي، فلا يطبقه سوى طرف واحد".

وتكمن أهمية طريق الكاستيلو في أن هذه الطريق تعتبر المخرج الشمالي لمدينة حلب، والوحيدة التي تصل ريفي المدينة الشمالي والغربي، مع أحيائها الشرقية الخاضعة لسيطرة الفصائل المسلحة.

ولمعرفة الأهمية الاستثنائية للمعبر، ومنطقة الكاستيلو بمجملها، لابد من العودة قليلاً بالزمن إلى الوراء، إلى بدايات عام 2012، عندما اجتاحت فصائل المعارضة المسلحة أحياء حلب الشرقية وحاصرت المدينة، وبدأت بتثبيت نقاط الفصل بين الأحياء الشرقية والغربية.

عبر هجومها الكبير ذاك، استحوذت المجاميع المسلحة على البنية الخدمة والتحتية والصناعية للقطاع الخاص والعام في المناطق الشرقية، فارتهنت الأحياء الغربية التي بقيت تحت سيطرة الحكومة، في إمدادات الماء والكهرباء والغذاء، والبنية الصناعية والمواد الأولية إلى قرارات الكتائب والفصائل المسلحة المتنوعة الولاءات والاتجاهات. وقامت الفصائل بإنشاء خطوط إمداد استراتيجي تمر عبر الأحياء الشرقية بما تحويه من بنية صناعية وتجارية هائلة، ورُبطت بالكامل مع الريف الشمالي الشرقي والشمالي الغربي لحلب مدعماً بمنشآت سكنية وصالات صناعية وفيلات ومزارع تم احتلالها وتسليمها لقادة ومقاتلين أجانب جرى نقلهم إلى سورية عبر الحدود التركية السورية.

وشكل الكاستيلو خط إمداد ووصل لفصائل المعارضة المختلفة، ومع البنية التحتية والصناعية والتجارية المتوافرة، شكل نواة وقاعدة اقتصاد حرب واقتصاد خدمات تعتمد عليه هذه الفصائل في الإعداد والتحضير لمرحلة ما بعد "إسقاط النظام" التي كانت تمنّي النفس بها.

في الحقيقة، لم يكن يتوقع حتى أكثر المتشائمين من هؤلاء أن يأتي اليوم الذي يغلق فيه الجيش هذا المعبر وهذا الشريان الوحيد الذي استمر لأربع سنوات متواصلة، والذي عدّته المعارضات المختلفة عنوان سيادتها وقوتها واستمرارها.

لنصل بعد أربع سنوات إلى دخول الجيش معركة الكاستيلو وربحها، والتي كانت الأطول والأقسى والأكثر كلفةً على المجموعات المسلحة، وعلى الجيش وحلفائه أيضاً.

ويتموضع الكاستيلو على الجهة الشمالية من مدينة حلب ويمسك بطرق الإمداد على القوس الشمالي والغربي والشرقي للمدينة، وبإمكان المسيطر عليه التحكم ناريا بعدة محاور، فضلاً عن قطع وعزل الأحياء الشرقية، والإشراف على الأحياء الكردية في الشيخ مقصود وتهديد حندرات والتغطية نارياً على حيان وحريتان وإسقاط تلة عبد ربه وحتى الإعداد لمرحلة الهجوم على الصالات الصناعية في الليرمون وإغلاق القوس الشمالي الرخو لجبهة الجوية وجمعية الزهراء، وبالتالي تقطيع أوصال المناطق المشار إليها.

وباستعادة الكاستيلو، سحب الجيش السوري وحلفاؤه أهم ورقة عسكرية من المعارضة وهي سرعة النقل والتحشيد للقوات مع حرمانها من مواردها البشرية والاقتصادية التي كانت تتمتع بها في الأحياء الشرقية وتوفيرها للموارد الصناعية والرافده للصناعات العسكرية التي تمت إقامتها عبر خمس سنوات من التفلت من سلطة الدولة.

واليوم، وبعد إقرار الهدنة والبدء بتنفيذها وانسحاب الجيش من النقاط التي حددت له وتسليمها للجانب الروسي لم يتم تطبيق البند الثاني من الاتفاق وهو انسحاب الآليات الثقيلة للمعارضة من محيط الكاستيلو، بل على العكس، صدرت مواقف متباينه من تلك الفصائل، منها من أيد على مضض ومنها من رفض وآخرون أفتوا بمصادرة المساعدات.

ومن هنا يبدو أن المعضلة الأساسية في هذه القضية ناتجة عن عدم وجود اتفاق ورأي موحد بين الفصائل حول التزامها ببنود الهدنة، وعدم وجود أدوات تنفيذية للطرف الآخر (الأمريكي)، وعدم الاتفاق حتى مع الفصائل على الطرق التي ستتبعها هذه القوافل والجهات التي ستسلم إليها واختلاف الفصائل في توزيع النسب وآلية تطبيق التوزيع العادل لهذه المساعدات.

ولا تعكس التصريحات الأمريكية حقيقة الوضع على الأرض، فالدولة السورية نفذت ما هو مطلوب منها بموجب الاتفاق، وليست مسؤولة عن عرقلة دخول المساعدات الى الأحياء الشرقية لأن المساعدات لم تدخل أساساً، وموضوع التفتيش هو بعهدة ومسؤولية الجانب الروسي الضامن لهذا الاتفاق كممثل وشريك للدولة السورية.

الرئيس بوتين نفسه أكد التزام دمشق بالهدنة عندما أعلن السبت من "بيشكيك" أن "روسيا تواصل تنفيذ جميع التزاماتها في إطار الاتفاق الروسي الأمريكي، بل توصلت إلى الاتفاق مع الرئيس الأسد، والحكومة السورية، وها نحن شاهدون على تنفيذ القوات السورية التزاماتها".

أما دمشق فقد أكدت عبر مصدر عسكري لـ"السفير" اللبنانية أن قوات الجيش السوري التي أعادت انتشارها في الكاستيلو مستعدة للتراجع مرة أخرى بعد تراجع الفصائل المسلحة وفق الاتفاق الروسي – الأمريكي لتأمين الطريق، معتبراً أنه أمر إجرائي بحت يتعلق بتنفيذ الطرف الآخر ما يتوجب عليه تنفيذه، وإلا فإن الانسحاب لن يؤدي إلا لهجمات جديدة، ستمنع وصول المساعدات إلى حلب".


أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024