جلس شقيق القتيل على كرسي من البلاستيك وهو يدخن السجائر ويشرب القهوة بينما يأتي المشيعون لتقديم العزاء. كان على الجدار ملصق للقتيل، وهو فلسطيني لقي مؤخرًا نهاية عنيفة.

لكن هذا الرجل، ضابط الشرطة الفلسطيني أحمد حلاوة، لم يُقتل في اشتباك مع الجيش الإسرائيلي. فقد اتُهم بالتآمر لقتل اثنين من ضباط آخرين، وتعرض للضرب حتى الموت أثناء احتجاز قوات الأمن الفلسطينية له، وفقاً لما نشرته صحيفة New York Times الأميركية.

قال عبد الله حلاوة، شقيق القتيل "نحن نعيش تحت الاحتلال الإسرائيلي"، وأضاف "أصدقكم القول، لم نرَ من الجنود الإسرائيليين شيئاً مثل هذا قط".

لا يوجد أي شخص في مدينة نابلس، وهي ثاني أكبر مدينة في الضفة الغربية المحتلة، تربى على الإعجاب بالإسرائيليين؛ إلا أن وفاة حلاوة تؤكد الانقسامات الداخلية التي تمزق المجتمع الفلسطيني مع اقتراب موعد انتخابات البلدية في الشهر المقبل. جاء ذلك بعد أسابيع من أعمال العنف بين السلطات الفلسطينية وما يسمونها "المجموعات الخارجة عن القانون"، أشعلت موجة من الاضطرابات هذا الأسبوع جرى خلالها إلقاء الحجارة والغاز المسيل للدموع ومرور موكب صاخب لجنازة حلاوة ضم آلافاً من المشيعين في شوارع المدينة.

تعكس أعمال الشغب والاحتجاجات التحدي القائم أمام قوات الأمن الفلسطينية من أجل الحفاظ على النظام في مدن الضفة الغربية تحت السيطرة الكاملة للسلطة الفلسطينية وسط سخط على السلطة وزعيمها الرئيس محمود عباس.

لطالما اطمأنت إسرائيل - والولايات المتحدة - أن عباس يعتزم الحفاظ على التعاون الأمني الذي يستاء منه العديد من الفلسطينيين ويحتقرونه لأنه يصب في المصلحة الشخصية للرئيس، إلا أن الخلاف الداخلي يمكنه أن يخل بذلك التوازن وتتجاوز تأثيراته الضفة الغربية.

"استياء من حركة فتح"

يدعو بعض الرجال المتعصبين لحركة فتح التي يتزعمها عباس إلى تأجيل الانتخابات المقرر إجراؤها في 8 أكتوبر أو إلغائها، خوفاً من الخسائر لصالح الفصائل المنافسة داخل الحزب، أو المرشحين المتعاطفين مع حماس التي تسيطر بالفعل على غزة.

قالت ديانا بطو، محامية في رام الله كانت تعمل لصالح عباس لكنها الآن من أشد منتقديه "أرى أن الاحتجاجات الجارية مؤشر على الاستياء الكبير من فتح وحكمها، ومحمود عباس وسلطته، وخاصة من الطريق الذي لا تقودنا إليه هذه الحكومة". وأضافت "ليس لديه ما يعطيه لنا بعد كل هذه السنوات، لذلك يتزايد انغلاقه على ذاته، ولهذا يحاول قمع المعارضة".

أقر أكرم الرجوب، محافظ نابلس والمستهدف من قبل المحتجين الذين يطالبونه وعباس بالاستقالة، بوجود حالة من الإحباط العام، وقال في حوار صحفي أجراه بعد يوم من الجنازة "نشعر بأننا ارتكبنا أخطاءً في الماضي"، وأضاف" لذلك أدى تراكم كل ذلك إلى ما شهدناه للتو في نابلس".

أشار الرجوب إلى أنه سيتم التحقيق في وفاة حلاوة "كان هذا خطأً بطبيعة الحال"، وتابع "لم يكن ينبغي على الضباط أن يتصرفوا على هذا النحو".

إلا أن الرجوب، والذي كان على خلاف مع عباس في بعض الأحيان، ذكر أن النقاد الفلسطينيين كانوا لعبة في أيدي إسرائيل عن طريق إضعاف الرئيس. وتعهّد بعدم السماح بما سماه العناصر الإجرامية، مؤكداً أن "السلطة الوطنية الفلسطينية جادة بشأن محاولة تطبيق القانون في الشارع الفلسطيني".

سيكون لعدم الاستقرار تداعيات على إسرائيل، التي تعتمد بشدة على التعاون مع قوات الأمن الفلسطينية، وعلى الولايات المتحدة وغيرها من البلدان التي استثمرت في نجاح السلطة الفلسطينية بتحقيق الأمن بالضفة الغربية، والقيام بالتفاوض مع إسرائيل. ومع توقف عملية السلام منذ فترة طويلة، يراها العديد من الفلسطينيين قيادة متكلّسة تعاني من الفساد والمشاكل المالية، ومنحازة للسلطات الإسرائيلية وأصحاب النفوذ الخارجي.

الانتخابات البلدية المقبلة

أبرزت انتخابات البلدية المقبلة الانقسامات. لم يعقد الفلسطينيون انتخابات وطنية منذ أن أسفرت المنافسات البرلمانية في عام 2006 عن انتصار مفاجئ لحماس. فيما كانت آخر مرة انعقدت فيها انتخابات المجالس ورؤساء البلديات الجديدة في مدن الضفة الغربية مثل نابلس عام 2012، نشرت خلالها حركة فتح نتائج متباينة، وفي بعض الحالات حازت بعض القوائم الرئيسية لمرشحي الفصائل المنشقة من الحزب ذاته على عدد أكبر من الأصوات.

فاجأ عباس (81 عاماً) في سنته الثانية عشرة من حكمه المفترض أن تكون مدته أربع سنوات، كثيرين عن طريق الدعوة للاقتراع في أكتوبر. وانقضت المهلة المحددة في ما يقرب من نصف الدوائر المحلية بوجود لائحة واحدة فقط من المرشحين أو لا شيء على الإطلاق، مما يجعل الانتخابات مزيجاً ما بين حفلة تتويج أو مزحة. ولكن ستتنافس فصائل في المدن المكتظة بالسكان، مثل نابلس على السلطة.

قال جمال الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لفتح بنابلس "لا أعتقد أن هذا الوقت المناسب لانتخابات البلدية" وأضاف "الشوارع لا تهدأ" مشيراً إلى أنه على الرئيس عباس إلغاء الانتخابات.

تضطرم الشوارع في مدينة نابلس بطاقة توتر. ويقبع مركز البورصة الفلسطينية المزدحم في نابلس بوادٍ ضيق به بحرٌ محاطٌ بمساكن على التلال. تأسس على أيدي الرومان ويصل عمره نحو ألفي سنة من الثورات والصراعات.

أكسبها سجلها الحافل من المقاومة العنيفة للحكام الأتراك والبريطانيين والإسرائيليين لقب "جبل النار".

بعد يوم من الجنازة، تمركز ضباط الأمن الفلسطيني مرتدين سترات واقية ويحملون بنادق نصف آلية خارج مدينة نابلس القديمة. أعرب المتسوقون في السوق عن استخفافهم بهذه الانتخابات.

قالت أريج خضر (47 عاماً) التي كانت تشتري البقدونس والنعناع والزعتر"لا أعتقد أن الانتخابات ستنعقد، وإذا حدث ذلك فأنا لا أؤمن بها". وأضافت "إنهم جميعاً جزءٌ من النظام".
سبب توتّر الأوضاع الأمنية

ترجع أحداث العنف الأخيرة إلى يونيو/حزيران، عندما اشتبك مسلحون محليون مع قوات الأمن الفلسطينية. في الشهر الماضي، قُتل اثنان من ضباط الشرطة الفلسطينية بالرصاص خلال محاولة لإلقاء القبض على هاربين في السوق. وفي تلك الليلة، ردت القوات الفلسطينية على ذلك بمداهمة السوق، مما أسفر عن مقتل اثنين من الرجال يقولون إنهما كانا مسلّحين.

كان أحدهما فارس حلاوة البالغ من العمر 24 سنة كما تقول السلطة. وفي غضون أيام، اعتقلت قوات الأمن الفلسطينية عمه، أحمد حلاوة، البالغ من العمر 50 عاماً، وهو رجل قوي البنية، وأصلع ذو شارب يخطه الشيب وكان ضابط شرطة وعضواً سابقاً في كتائب شهداء الأقصى، الجناح المسلح لحركة فتح.

ادعت قوات الأمن الفلسطينية أن أحمد حلاوة "العقل المدبر" لمقتل الضابطين في السوق. وبحلول الصباح، كان قد تعرّض للضرب حتى الموت في سجن جنيد. وألقي القبض على أفراد الأسرة الآخرين وأفرج عنهم.

وصف الرجوب أسرة حلاوة بأنها عشيرة من مثيري الشغب. وقال أنصار الحكومة، رغم إدانتهم الاعتداء بالضرب على حلاوة، إنه كان يجب على السلطات مطاردة قتلة ضباط الشرطة أو المخاطرة بفقدان السيطرة على المنطقة تماماً.

قال رائد عامر، رئيس نادي أسرى نابلس، والذي يدعم الفلسطينيين المحتجزين من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، إنه إذا لم تفرض السلطة الوطنية الفلسطينية القانون "ستكون نهاية أمرهم".

ولكن حادثة حلاوة كانت جزءاً من الهيكل الأمني لحركة فتح يوحي إلى أي مدى يمكن أن تذهب الانقسامات. نفى أقاربه خلال إقامة العزاء أن أسرهم كانت أحد الفصائل الإجرامية، وقالوا إن لديهم تاريخاً طويلاً من مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.

قال عبد الله، شقيق القتيل ووالد فارس الشاب المقتول في السوق "لا نعرف لماذا يفعلون هذا" وأضاف"نحن عائلة من المقاتلين لأجل الحرية. وإذا كنا عائلة مليئة بالخارجين عن القانون، فالـ20 ألف مواطن الذين ساروا في جنازة أخي في نابلس خارجون عن القانون أيضاً".

وأكد أن المعركة لم تنتهِ بعد. و"أننا لن نبقى صامتين. ونريد من العالم كله أن يعرف".


أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024