منذ 7 سنوات | لبنان / السفير



يجلس وليد جنـبلاط إلى أريكته المعتادة. هاتـفه و«آيباده» بين يديه لكن لا أثر لكلبه «أوسكار». يقرأ هنا ويغرّد هناك، فيزداد تأكداً من أن قراءاته حول «سايكس بيكو» وظروفها ونتائجها أمر لا بد منه لفهم التطورات المتسارعة في المنطقة. الحدث التركي نموذجاً.

الخريطة تتغير. ذلك صار أمراً واقعاً حتى لو لم تتغير الحدود التي رسمت في العام 1916. العراق ليس هو نفسه، وسوريا كذلك، وربما تركيا أيضاً، وربما…

الأسئلة التركية عند جنبلاط، كثيرة، كما عند أغلبية الجمهور السياسي، وهو الآخر لا أجوبة لديه عن «الانقلاب الغريب»، أو ظروفه أو من وراءه، لكنه يعرف أن ما بعده ليس كما قبله، وأن رجب طيب أردوغان بدأ سريعاً مرحلة الاستفادة مما حصل لتعزيز نفوذه في الداخل. يأسف جنبلاط لمشاهدة الجنود وهم يُهانون في الطرق والساحات العامة، ويعتقد أن كسر هيبة الجيش التركي، مع ما يحمله من رمزية تاريخية، لن يكون أمراً يمكن تجاوز مفاعيله قريباً. يقدّر أن تركيا مقبلة على مرحلة من القمع والتشدد في التعامل مع الأوضاع الداخلية من شأنها أن تزيد الأوضاع تأزماً في المستقبل.

وإذا كان جنبلاط يتوقع أن يتغير دور تركيا في المشهد الإقليمي، ربطاً بالتوتر الذي يسود حالياً بينها وبين أميركا وأوروبا، فإنه بدأ يقتنع بأن ذلك سيكون في مصلحة المحور الثاني، أي روسيا وإيران، خصوصا أن الأخيرة كانت الأوضح والأذكى في التعبير عن رفضها للانقلاب العسكري.

أكثر ما يحزن جنبلاط هو كيفية التعامل اللبناني مع الانقلاب الفاشل. هل صار رجب طيب أردوغان زعيم السنّة، حتى يحتفل أبناء الطائفة، من كل الأطياف السياسية، ببقائه في الحكم أو في سحقه الانقلاب؟ وهل صار الشيعة يؤيدون الحكم العسكري؟ لا أجوبة واضحة سوى أن الانقسام المذهبي في لبنان وصل إلى حد غير مسبوق، ومعه، يصبح كل شيء مباحاً.

ولكن، ماذا لو تغير دور تركيا في سوريا، هل يبقى أردوغان زعيماً للسنّة وعدواً للشيعة؟

ذلك الانقسام الشديد يشغل بال جنبلاط كثيراً. يكبّل يديه في أحيان كثيرة، مانعاً إياه من إكمال معركة سياسية هنا أو اقتصادية أو اجتماعية أو إدارية هناك. ولذلك، تجده ينسحب من المعارك التي يفتحها في وجه من صودف أنهم من غير طائفته. حملته كانت عالية النبرة على جهاد العرب، في ما يتعلق باستحداث مطمر صحي في الكوستابرافا.

المبلغ الذي قدمه العرب مرتفع جداً، وهو ما اعترض عليه مفوض الحكومة لدى مجلس الإنماء والإعمار وليد صافي («اشتراكي») عند فض العروض، وأدى رفضه الى إلغاء ما أسماها «المناقصة المشبوهة»، لكن النقاش بدا ممنوعاً عند «المستقبل».

الحريري أوحى بأن الاعتراض على جهاد العرب وشركته هو تعرّض للسنّة، فكان ذلك كافياً ليتراجع جنبلاط، كما تراجع عن الحملة التي كان يقودها ضد عبد المنعم يوسف وضد الكاميرات في العاصمة وضد محاولة وضع اليد على شاطئ الرملة البيضاء.

ولأن جنبلاط يدرك حساسية الظرف السياسي، فهو يدرك أن المطلوب تهدئة النفوس والابتعاد عن أي موقف يساهم في تأجيج أي صراع مذهبي في هذه المرحلة.

من يعرف جنبلاط يعرف حساسيته العالية تجاه شخصين تحديداً: ميشال عون وسمير جعجع. ثم يدور الزمن، فتراه يؤيد ترشيح الأول ويفتح خطوطاً مع الثاني، طالباً منه العمل على إقناع الحريري بالعودة إلى تبني عون للرئاسة.

ليس لشيء سوى لأنه صار مقتنعاً بأن الخروج من المراوحة القاتلة، مع ما تحمله من مخاطر أمنية، أهم من الأسماء. لكنّ للزعيم الدرزي أسباباً أكثر خصوصية أيضاً. لا يمكنه أن يقف في وجه الاتفاق المسيحي، ولا مصلحة له في مواجهة خيار أغلبية المسيحيين، الذين تصالح معهم الدروز في العام 2001.

الخطوة التي خطاها جنبلاط لم تحرّك المياه الرئاسية الراكدة. فالفراغ مستمر وطويل، لأسباب داخلية وخارجية. لكن أبرزها، بحسب جنبلاط، هو النظام السوري. باختصار، يعتقد جنبلاط أن بشار الأسد ليس مستعجلاً التسوية الرئاسية في لبنان.

وفي حساباته، فهو، كما والده، لن يقدم على تسهيل الطريق الرئاسية من دون مقابل. ولأن لا أحد في المنطقة أو أوروبا يملك المقابل، فإنه لن يبيعها سوى إلى الأميركيين. وهذا يعني عملياً أن البيعة قد تتأخر إلى الربيع المقبل حداً أدنى، أي ريثما يستقر الرئيس الجديد في البيت الأبيض ويثبت دعائم إدارته.

يتوقف جنبلاط عند الوضع السوري، ليشير الى أن الأمور تتحرك في المنطقة لمصلحة بشار الأسد، وهو يتصرف منذ الآن كمنتصر، وخير دليل على ذلك اشتراطه مبادلة التعاون الأمني من جانبه مع الأوروبيين بانفتاحهم ديبلوماسيا عليه، ولذلك حصلت زيارات متبادلة مع الإيطاليين وزاره الألمان ووفد الاتحاد الأوروبي والحبل على الجرار.

كل شيء يشير إلى أن جلسات الحوار الوطني المتتالية في مطلع آب المقبل لن تكسر جدار الأزمة. جنبلاط قادر على توقع ما سيقوله كل طرف، بما يؤدي في النهاية إلى فشل مساعي السلة الكاملة. ويقول جنبلاط إن الرئيس نبيه بري متشائم في هذا الخصوص أيضاً. ويرجح أن يكون التقدم في أي من الملفات المطروحة صعباً، ولا سيما قانون الانتخاب، الذي يريد كل طرف ضمان حصوله على الأكثرية من خلاله.

يبتسم جنبلاط عندما يتحدث عن الأكثريات. يقول: نحن مع «14 آذار» نملك الأكثرية حاليا في مجلس النواب لكننا لا نحكم، واذا حصلت «8 آذار» في أي قانون انتخابي على الأكثرية فلن تتمكن من أن تحكم وحدها «لأن البلد محكوم بالتوافق والتراضي». وفي الانتخابات، بغض النظر عمن يحصل على الأكثرية، فإن قاعدة التوافق ستبقى القاعدة الوحيدة القابلة للتطبيق، في بلد تحكمه حساسيات طائفية وسياسية دقيقة. يأمل جنبلاط تسوية بين الاقتراحين المختلطين تؤمّن نسبية معينة من النسبية مقبولة عند جميع الأطراف.

مع كل الأبواب المغلقة في السياسة، ما يزال جنبلاط مطمئناً إلى النافذة الأمنية. وإذا كان الجميع يتحدث عن المظلة الدولية الضامنة للاستقرار، فإن ذلك لا يقلل أبداً، بالنسبة لجنبلاط، من شأن الجهود التي تبذلها القوى الأمنية كافة، وفي مقدمتها الجيش. أضف إلى أن الأمن تحول إلى المظهر الوحيد الباقي من مظاهر الدولة، ناهيك عن الهيبة التي تتآكل يوماً بعد يوم.

قبل أن تودّعه، تسأله عن الانتخابات الرئاسية الأميركية، فيجيب متوقعا أن يفوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب. يستند في ذلك الى قراءات ومعطيات وأحداث أبرزها حدث الانفصال البريطاني عن الاتحاد الأوروبي.


أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024