منذ 6 سنوات | ثقافة / الحياة

ثمة حقيقة لغوية مثيرة لا نعيرها انتباهاً كافياً على رغم تشكيلها أمثولة لعالمنا اليوم الذي تشهد الهويات فيه حالة تشنّج وانغلاق تصل إلى حدّ التحجّر. حقيقة أن مفهوم الانفتاح والتعايش موجود بين الكلمات منذ بدء الخليقة ويشكّل شرطاً لأي لغة ليس فقط لثرائها بل لبقائها أيضاً على قيد الحياة. هكذا تلاقحت، على سبيل المثال، اللغتان العربية والفرنسية فانتقلت على مر العصور مئات الكلمات العربية إلى الفرنسية، ومئات الكلمات الفرنسية إلى اللغة العربية.

وللكلمات الفرنسية من أصل عربي يخصّص عالِم الألفاظ والمستعرب الفرنسي جان بروفوست بحثه الأخير والمثير الذي صدر حديثاً عن دار «جان كلود لاتيس» الباريسية تحت عنوان «أسلافنا العرب». عنوانٌ غير بريء لكونه يشكّل، مع الكتاب الذي يحمله، ردّاً مُحْكَماً على شخصيتين فرنسيتين: الأولى، مضمرة ومعاصِرة، ونقصد الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي الذي سمح لنفسه مرّةً بالتصريح بأن على الأجانب الذين ينالون الجنسية الفرنسية أن يصبحوا «أحفاد الغاليين» ويتصرّفوا على هذا الأساس، والأخرى، معلَنة، تعود إليها العبارة الفرنسية الشهيرة «أسلافنا الغاليين»، ونقصد المؤرّخ الفرنسي أرنست لافيس الذي وضع في نهاية القرن التاسع عشر كتب التاريخ المرصودة لتلامذة الصفوف الابتدائية والمتوسطة والعليا في فرنسا.

 

قاموس تربوي

عبارة لافيس ظهرت للمرة الأولى في مقالٍ له داخل قاموس تربوي كتب فيه: «فلنجعل التلامذة يحبّون أسلافنا الغاليين...». كلمات قد تبدو بريئة عند الوهلة الأولى، لكنها تشكّل في الواقع دعوة إلى تكييف أيديولوجي للتلامذة يندرج في سياق رفض اليساريين والجمهوريين في فرنسا ادّعاءات طبقة النبلاء على مر العصور بأن أسلافهم هم الفرنجة (les Francs).

هذا ما يكشفه بروفوست في مطلع بحثه الذي يتبيّن فيه أن عدد الكلمات الغاليّة في اللغة الفرنسية محدود جداً (200 تقريباً) مقارنةً بالكلمات العربية التي تتجاوز الـ500، ما يضع اللغة العربية في المرتبة الثالثة، بعد الإنكليزية والإيطالية، كلغة غذّت الفرنسية. ولا تدهشنا هذه الحقيقة نظراً إلى العلاقات الوثيقة بين عالمنا العربي وفرنسا على مر العصور، لكن ما يشكّل مصدر دهشة وأسف للباحث، على ضوء هذه الحقيقة، هو قيام معلّمي سلطة الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي بتكرار عبارة «أسلافنا الغاليين» على مسمع تلامذتهم العرب، واستمرار تكرار هذه العبارة اليوم في فرنسا على مسمع الأطفال الفرنسيين ذوي الأصول العربية، في حين أن الحقيقة هي أننا، حين نتكلم لغة، أي لغة، نتكلم في الواقع عدة لغات.

وبحسٍّ تربوي عالٍ، تدعمه طُرَفٌ كثيرة، يقود بروفوست قارئه بمهارة عبر الطُرُق المعقّدة والملتوية التي سلكتها الكلمات العربية في سفرها إلى اللغة الفرنسية: الفتوحات العربية، الحملات الصليبية، التبادل التجاري، الإشعاع الحضاري الذي شهدته دمشق وبغداد والأندلس، مرحلة الاستعمار الفرنسي، مرحلة ما بعد هذا الاستعمار، وفي النهاية الهجرة العربية الكثيفة إلى فرنسا في العقود الخمسة الأخيرة.

أما لسفرنا في كتابه داخل اللغة الفرنسية من أجل الاطّلاع على الكلمات فيها ذات الأصل العربي، وبالتالي على ما تدين به هذه اللغة للعربية، فيقترح الباحث طريقين: الطريق الأولى تتّبع ترتيباً أبجدياً، بدءاً بحرف «A»، مثل abricot وalgèbre وalcool، وانتهاءً بحرف «Z»، مثل zénith وzellige وzéro، مروراً بجميع حروف الأبجدية الفرنسية. الطريق الثانية، وهي الأثرى في كتابه، تتّبع تقسيماً موضوعياً وتشكّل بصفحاتها الغزيرة (200) نواة بحثه. فمن النباتات إلى الحيوانات، مروراً بالعطور والحلي والألوان والموسيقى والأدب والفنون والعلوم والمسكن والملبس ووسائل النقل والأسلحة والحرب، يدعونا هذا البحث إلى استكشاف ما لا يقل عن 26 مساراً موضوعياً.

 

أشياء ومفاهيم

ولا يكتفي بروفوست بذلك، بل يقسّم الكلمات المستعارة من العربية إلى نوعين: الكلمات الضرورية التي تخصّ الأشياء أو المفاهيم أو العناصر الثقافية أو الحضارية التي لم تكن موجودة في اللغة الفرنسية، كما هي الحال مع «قطن» (coton) أو «كافور» (camphre)؛ والكلمات التي أتت كمكاسب مضافة على ما كان موجوداً في اللغة الفرنسية، مثل «بركة» (baraka) و«غارة» (algarade) و«سمت» (azimut) و«ترجمان» (truchement). كلمات عرفت مصيرَين، يوضح لنا الباحث، إذ بقي بعضها كما هو في لغة موليير، كما هي الحال مع «حمّام» (hammam) و«مـــفـــــتـي» (mufti)، وبعضٌ آخر تحوّل وتكيّف مع اللغة الفرنسية إلى حد يصعب فيه التعرّف إلى أصله العربي.

ويختم بروفوست بحثه باستنتاج مهم خلاصته أنه لا بد من الاطّلاع على شبكة الاقتباسات التي تعبر القواميس وتخصّ كل واحدة من الكلمات الفرنسية المتأتّية من اللغة العربية، كي نعي أن الكثافة التاريخية (التي تميّز علاقة اللغتين الفرنسية والعربية) بلغت حداً يتعذّر فيه تدمير نسيجها.

يبقى أن نشير إلى أن السنوات الطويلة التي أمضاها هذا الباحث في التعليم لعبت من دون شك دوراً في وضوح وطرافة أسلوبه الكتابي، وبالتالي في جاذبية كتابه الذي يُقرأ بمتعة كبيرة تعود أيضاً إلى استحضاره فيه مراجع اجتماعية وثقافية وأدبية لا تحصى من أجل مقاربة موضوعه المثير، وأيضاً من أجل إظهار أن مسألة الإثراء والتلاقح بين اللغات التي سعى إلى كشفها تتجاوز المستوى اللغوي.

طبعاً بحثُ بروفوست ليس جديداً في موضوعه، بل له سوابق كثيرة نذكر منها كتاب هنرييت والتر وبسّام بركة «عربسات، مغامرة اللغة العربية في الغرب» (2006)، وكتاب صلاح غمريش «قاموس الكلمات الفرنسية من أصل عربي» (2007)، وكتاب ألان راي «سفر الكلمات من الشرق العربي والفارسي إلى اللغة الفرنسية» (2013)، من دون أن ننسى كتاب سيغفريد هانكي الشهير «شمس الله تشعّ على الغرب» (1963). لكن المهم في «أسلافنا العرب»، إلى جانب مضمونه الغني وطريقة معالجته المبتكَرة وكشفه آليات انتقال الكلمات من لغة إلى أخرى وطُرُق مَعْجَمتها، هو صدوره قبل فترة قصيرة من الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، وبالتالي تشكيله ردّاً يمزّق خطاب الفرنسيين المعادين للعرب، بكشفه لهم ولغيرهم عمق الإرث العربي لفرنسا الذي يتعذّر نكرانه.


أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024