منذ 6 سنوات | العالم / المستقبل



وأخيراً بقي للدورة الثانية متنافسان: اليمين المتطرف المتمثل بمارين لوبن، والوسط (لا يمين ولا يسار) المتمثّل بماكرون. وجناحا الجمهورية الخامسة: الجمهورية، والاشتراكي، تكسرا. الثنائي الذي حكم فرنسا نحو أربعة عقود بقي للمرة الأولى خارج الجولة النهائية. فاليمين الجمهوري تلقى ضربة قاسية بسقوط فرانسوا فيون، واليسار المعتدل أصيب إصابات ساخنة بسقوط هامون.


لكن ماذا يعني كل ذلك؟ أمفاجأة كانت النتائج، أم متوقّعة؟ فلنقل إن المفاجأة تزاوجت والتوقع. وهل استيقظ الشعب الفرنسي ذات صباح ووجد نفسه على نقيض هذين الحزبين الرسميَّين: إنهما يمثّلان تراكمات السلطة منذ رحيل الجنرال ديغول، أي أنهما «رمزا» الدولة المُفترض أنّها ديموقراطية، والنظام ذو الممارسة التمثيلية، والرئاسة المترددة بين شخصانية تكاد تكون مطلقة وبين برلمان يلعب ما تيسّر له ضمن حدوده الدستورية. إنها التناقضات؟ رئيس مطلق اليدين الى جانب حكومة تنفيذية، وبرلمان تشريعي. أقبّعة عسكري على رئيس مدني، وأداء برلماني قد لا ينفصل دائماً عن توجهات الرئاسة؟ أتُوتاليتاريّة من فوق وتمثيليّة من تحت، وما بينَ بين في الوسط؟


إن بنية النظام، ككل، تعاني شقوقاً، بحيث بات كلّ من يساره ويمينه بمثابة باشوات أو لوردات جعل منهم التناوب على السلطة في منصات متباعدة عن الناس، ومشاكلهم، وهمومهم، وفقرهم، وأحوالهم. إنقسام عمودي إذن بين الفوق والتحت. هذه هي النقطة التي يمكن أن تكون الحصاة التي تحوّلت الى صخرة سقطت على رؤوس الجميع.


لكن هذه البنية نفسها التي أزالت الفارق بين الدولة والنظام والسلطة (كما في العالم الثالث)، هل هي السبب الوحيد الذي أدى الى هذا الارتياب القريب من الغضب، ومن الانهيار، ومن القسمة العضوية التي ظهرت على الخريطة السوسيو ـــ سياسية في فرنسا. طبعاً لا!


فالدولة، كلّ دولة منذ عقدين أكثر أو أقل، لم تعد منفصلة بمشاكلها الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، عن المنظومات والدول الأخرى، بفعل العولمة، والاتحادات والشركات والمنظومات والمصارف والتبادلات والتكنولوجيات، الى درجة رأى بعضهم، أنّ بعض الدول فقدت استقلالها (الاقتصادي)، أو سيادتها الوطنيّة، أو حريّاتها المكتسبة، وصولاً الى هوّيتها. كل هذه العوامل، مضافة الى الأنظمة الديموقراطية التمثيلية أو ما يعادلها، وممارساتها، وفشلها، أدت الى الوضع الذي سبق ورافق الحملات الانتخابية والاقتراع في فرنسا.

صحيح أن المعنى الأساسي للانتخابات كان سياسياً، لكنّها السياسة «المشمولة» بأدوار أخرى من روافدها، وقنواتها، ونتائجها أكثر من سياسية محضة، وأحزاب وحتى يمين ويسار ووسط وما دون الوسط وما هو أبعد من اليسار. إنها البنية التي من مخارجها، وتصدعاتها (الاقتصادية، والفساد، والارتهان والاستهتار....)، طلع ما يُسمى اليمين المتطرّف وكذلك اليسار المتطرّف، وصولاً الى وسطيّة مُهجّنة بأطراف يسارية ويمينيّة، هي تحديداً من هؤلاء الذين حاولوا القفز من السفينة (اليسارية واليمينية قبل غرقها). إذاً، من حطام الحزبين (كرمزين للاستبليشمن)، طلع كلٌّ من ميلانشون بيساريّته، اللفظية المفرقعة، ولوبن بسماتها المفرغة من كل محتوى سوى شعارات التمسك بالهويّة، ومواجهة العولمة، والعداء للإسلام وأوروبا.. وهي «مواقف» أكثر مما هي «أفكار»، وماكرون كرجل مثقف، واقتصادي، ومن خارج السلالات الحاكمة، يجد نفسه على الرغم منه ربّما، المنقذ من «الضلال»: وبين الاستطلاعات الأولى قبل شهرين وإلى لحظة الاقتراع، صعد صعوداً صاروخياً، (كالمعجزة)، وتجاوز فيون (بعد فضائحه المالية وفساده)، وميلانشون، وصولاً الى لوبن. أهي ثلاثيّة الحطام الذي تناثر من الجمهورية الخامسة، والنظام التمثيلي، والديموقراطية «المستنفدة»؟ أهي الشعبويّة حلّت محل، العقلانية؟ أهي الشعبويّة الديموقراطية على مفارقتها الاصطلاحية؛ أهي الشعبويّة التوتاليتاريّة؟ أهي الشعبويّة الفصامية؟ أكلٌّ من أيد لوبن أو ميلانشون أو حتى ماكرون (بعضهم يتّهمه بالشعبويّة أيضاً). أهي الشعبويّة الرسمية المكرّسة - السلطويّة (فيون، ساركوزي....)؟ أهي الشعبويّة التي انبثقت من العدم؛ ألا يُقال إنّ لا سياسة بلا شعبويّة؟ أترى اختلطت الأمور، فلم نعد نميّز بين شعبويّة دكتاتورية، أو أخرى معقلنة أو ديموقراطية، أو مناطقية، أو دينية، أو حتى فنيّة وفلسفية (أوليس هناك فلاسفة شعبويّون في فرنسا وسواها: مثل فالكروفت أو هنري ليفي أو حتى ميشال أونفري؟ فيلسوف وشعبوي؛ إنه الزواج الذي بات ممكناً، في فضاء الجنون الذي ساد اللعبة السياسية في العالم كلّه. فحالة فرنسا هذه غير منفردة: هناك مقابسات مماثلة في إنكلترا، وأميركا، وحتى ألمانيا، والمجر، وروسيا). الديموقراطية ودساتيرها وأنماطها، باتت مشلّعة بين هذه الأحوال، عاجزة، يائسة، مضروبة، متهافتة، خانها الجميع: كأنّها باتت «كالملك لير» في مسرحية شكسبير. تُركت وحدها فريسة لكل مَن يتناولها؛ أعلنوا جميعاً موتها ومشوا في جنازتها (وكذلك الثورة الفرنسية). فالديموقراطية تكبر أو تصغر أو تفشل بناسها. ونقول هذا لأنّ الديموقراطية، بأشواطها، وفضاءاتها، وإنجازاتها، باتت مُستهدفة من كل جانب: أي أن النظام الديموقراطي في فرنسا (وغيرها)، بات على مرمى السهام: ومنهم مَن يظنّ أنّه أصابها بمقتَل: موت الديموقراطية، استنفاد الديموقراطية التمثيليّة، سقوط لعبة اليمين واليسار؛ سقوط الأحزاب، سقوط النقابات، سقوط البرلمانات، والحكومات: إنها اللحظات التي تدفع فيها الديموقراطيات أثمان سواها. وعلى هذا الأساس، طلعت بدائل واستعارات وروافد وبُنى أخرى تأخذ اسم الديموقراطية لتبدّلها: فإلى الديموقراطية التمثيلية، اقترح كثير من المفكرين والسياسيين حلولاً وتحوّلات في بنيتها التي لم تعد تستجيب للواقع المركب، ومنه هذه الاقتراحات: الديموقراطية التشاركية، والديموقراطية «السائلة» وديموقراطية بلا صناديق اقتراع، أو الديموقراطية بالقرعة، أو الديموقراطية «الكومونية»، أو الديموقراطية الشمولية أو العالمية أو...!


تكاثر الكلام والأفكار والتصورات حول حلول جديدة للديموقراطية الراهنة، لكن من دون أن يجرؤ أحد على إعدامها! أو نفيها! لكن بعض هؤلاء هم الذين أوصلوها الى جلجلتها، وصلبوها...


هذا الجانب «الهيولي»، انعكس فوضى لا نعرف إذا كانت محض سلبية أو إيجابية على الجمهور، الذي صبر طويلاً، وحصد من كل هذه الظواهر ما أفرده (إفراد البعير المعبد، على حدِّ قول الشاعر الجاهلي طرفة)، وأحسّ أنّ العالم بسياسيِّيه، وعولماته، ومؤسساته وحكامه قد تخلى عنه. إنها لحظة الافتراق (بلا وداع ولا مِنة)، التي جعلته يكفر بالديموقراطية والعقلانية والتنوير وأميركا وأوروبا واليورو والأفكار والإصلاح، فافتقد في رد فعله هذا ما يُعينه على صحة الاختيار (إذا قدر عليه)، أو التأمل، أو التبصّر، فكانَ أن قلب الطاولات كلها، واستسلم لمشاعره، وغرائزه، ومخاوفه، وينفصل. لحظة انفصال بنيويّة تعادل لحظة إنفصال الديموقراطية الجامعة. فهو ارتأى أقرب الحلول التي بثّها الشعبويّون في آذانه وقلبه وأعصابه. وانحيازه الى شعبويّة الشعبويّين كأنّما كانت الخشبة المهترئة التي تمسّك بها للنجاة، هنا بالذات مكمن الخطر: فعندما يفقد الناس ثقتهم بنظامهم الديموقراطي فيعني التمزق، والانفضاض، والإنطواء (في مختلف سماته المكانية أو الزمانية)، بل وعلى صلاته التاريخية ببعضه: القسمة العمودية أو الأفقية أو الإثنتان معاً.


فلعبة الخروج لم تقتصر على الطاقم السياسي السائد، بل على النظام نفسه، بأدواته ورموزه وأمكنته.


فأهل السلطة ومدنهم، لم يستشعروه... فكانت ثورة صامتة تنتشر في أواصره على امتداد عقدَين. والغريب أنّ المسؤولين لم يحسّوا بذلك. وأكملوا عملهم وكأنّ لا شيء يختلج في ضمائر هؤلاء الناس... وهذا بالتحديد ما أكدته الإحصاءات التي أُجريت بعد عمليّة الاقتراع، والتي تبيّن بحسب (جهة الاستطلاع «ايبسو»)، أنّ الانتخابات لم تفرز فرنسا واحدة أو إثنتَين بل أربعاً أو خمساً! متباعدة، ومتضاربة، ومتناكرة، فرأى بعض الإحصائيين:


1) فرنسا المدينية، الميسورة، المرفّهة من حملَة الشهادات، والاختصاصات، والمشاريع، والمركزية، في باريس. صوّتت لماكرون.


2) فرنسا ثانية، مدينية أيضاً، شهادات، ورفاهية، واختصاصات - مؤلفة من أعداد المتقاعدين (صوّتوا لفيون).


3) فرنسا - سكان الضواحي، الفقيرة، المظلومة المُهملة (صوّتت لميلانشون كانتقام من الحزب الاشتراكي).


4) فرنسا شعبية، من سكان المناطق الريفية، والمدن الصغيرة (أقل من 15 ألفاً)، صوّتوا للوبن.


إذاً، هذه الانقسامات تخلّلتها ظواهر شعبويّة وثقافية وفوضوية، وطَبَقيّة واحتجاجية، أو محافظة، تمثّلت بفراق المدن الكبرى (أكثر من 15 ألفاً.. الى مليون وأكثر)، وبين الضواحي والأرياف.


هذه «الشرائط» المُظهَّرة ترسم صورة أربع أسماء لفرنسا منقسمة الى حدّ الكانتونية في بعض الأحيان: فالمدن الكبرى كباريس صوّتت لماكرون 35% مقابل 5% للوبن... وتبِعتها في هذا السياق المدن الكبرى الأخرى. بينما الأرياف والضواحي والأطراف صوّتت لميلانشون (شعارات يسارية قديمة... تصل الى حدِّ إعلان نهاية الجمهورية الخامسة)، وللوبن التي تمثّلت شعبوّيتها بما هو أخطر: الهويّة وتهددها من كل الطارئين وخصوصاً الإسلام، وأوروبا التي تشكل خطراً على سيادة فرنسا، الى جانب شعارات عمالية واقتصادية.


أهي المدن الكبرى في مواجهة الأرياف بتقسيماتها التي تكاد تكون فاصلة؟ أهي فرنسا المنتزعة من ممثلها الأوروبي في انسلاخات أخرى؟ أهي فرنسا المناهضة للنظام التمثيلي، قد تصل اختياراتها الى الفكاك من هذه البنية المتهاوية!


لكن الى أيّ حدّ تبدو هذه التمايزات السوسيو-سياسية، والجغرافية، أعراضاً انفصالية أو حتى إنشقاقية عن المركزية الأم؟ إن مثل هذه الافتراضات والخلاصات ما زالت خاضعة للدراسة والبحث والاعتبارات التاريخية، والسجالات. لكنّها حتى الآن واقعة... وبائنة. لكن بعضهم رأى أنّ فرنسا مقسومة الى إثنتين قد تفسّران التقسيمات الأخرى أو تحيلها على أسئلة أخرى: إن فرنسا إثنتان (لا أربع): فرنسا مفتوحة، وأخرى مغلقة.


الأولى تبحث عن خلاصها في العولمة، وأوروبا، والتمسك باليورو والتعددية، والديموقراطية، وفي المدن. وفرنسا ثانية ترفض كل هذه السياسات: لا أوروبا. لا لليورو. لا للعولمة... لا للمسلمين، ولا للغرباء... وهي سكنى الأرياف.


إذاً، فرنسا المدن ضد فرنسا الأطراف، فرنسا السُعداء ضدّ فرنسا البائسين وضحايا كل هذه الممارسات «المدينية»....


ونظن أنّ مختلف هذه الظواهر التي أكدتها الإحصاءات الانتخابية، لا تختلف عن تلك التي قاستها بأربعة مقاسات؟


فهل يعني هذا أنّه بات في فرنسا أربعة شعوب، وأربعة كانتونات، أو شعبان، وكانتونان مسوّران بين المدينة والأطراف. لكن عندها، نسأل: أين فرنسا الواحدة: الله أعلم! يمكن أن تبحث عن واحدة في شوارع الإليزيه، ولندن، وعن أخرى في أعماق التاريخ عند «أجدادنا الغولوا»، أو عند نابليون، أو بيتان، أو في أزقّة بعض الأرياف!


السؤال الكبير: أين هي الديموقراطية في كل هذا؟ نسأل لأنّ الديموقراطية هي التي صنعت فرنسا الواحدة، والمتنوعة، وفي غيابها، قد تلقى فرنسا ما لقيته بعض البلدان من تقسيمات، وفوضى، وخروج، وانتماءات مرتجلة، وتحطم بُنيتها التاريخية، والشعبية، وتبخّر جغرافيتها...


الأسئلة ما زالت مرتهنة، وإلى حدّ ما، بمدى وعي الأحزاب الأخطار المحدقة ببلدهم، لكن أيضاً، بنتائج الاستحقاق الانتخابي بين ماكرون ولوبن.


فلننتظر، لأن لا شيء مضموناً حتى الآن! لا ماكرون ولا لوبن!


أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024