منذ عام 2019، شهد لبنان انهياراً متعدد الأوجه ماليا - نقديا - مصرفيا تحت ضغط دولرة هائلة جزئية غير رسمية مرتفعة جدا بما يتخطى الـ 80 % نسفت كل تقديرات أرقام الموازنة نظرا للضياع بشأن سعر الصرف الذي يمكن اعتماده لاحتسابها. دولرة بقيت مرتفعة حتى طيلة الـ22 سنة من تثبيت سعر الصرف على أساس دولار/ليرة 1507.5. علمياً تثبت كل الأدبيات الإقتصادية والتجارب الدولية أنه في هكذا أزمة متشعّبة الأوجة لا يمكن مقاربة الموضوع ومباشرة استراتيجية حل إلا بدءا بالشق النقدي واختيار نظام سعر الصرف المناسب والذي على أساسه يمكن احتساب كل الأرقام لبقية السياسات الاصلاحية لا سيما منها الموازنة!... ما هي خصوصية الشق النقدي وسعر الصرف في الأزمات المتعدددة الأوجه؟ ما هي الخيارات الممكنة في حال الدولرة الجزئية المرتفعة بعد سقوط نظام ربط سعر الصرف كما كان حاصلا بين 1997 و2019؟ وأي تقييم لكلفة ونتائج الخيارات المتاحة؟

منذ سقوط نظام سعر الصرف في تشرين الأول 2019، مع تعثّر إمكانية الاستحصال على الدولار على أساس السعر الرسمي المعتمد 1501-1514 وسعر وسطي 1507.5، لا من المصارف ولا من السوق الموازية وتنامي أسعار متفرقة على وقع «هيستيريا الدولرة» الناتجة عن سقوط مريب لثقة المواطنين بالعملة الوطنية والخيارات الاقتصادية ككل وهلع الناس لشراء الدولار والهروب من العملة اللبنانية، لم يعد من الممكن علميا ومنطقيا مقاربة الأزمة المتعددة الأوجه المالية-النقدية-المصرفية إلا بدءا بمقاربة انهيار نظام سعر الصرف وضرورة اختيار البديل.. ولكن للأسف هذا بالظبط ما لم يحصل، بل كان الخيار هو عدم الخيار، أي الهروب الى الأمام بترك عامل الوقت وحركة السوق تفرض وقعها بالاتجاه الذي تطغى فيه العملة الأقوى على العملة الأضعف من دون أن يتحمّل أحد لا مسؤولية إعلان سقوط نظام سعر الصرف السابق ولا مسؤولية الإعلان عن نظام سعر الصرف الأنسب للحالة التي يمر بها لبنان.

 

في الواقع ، حتى ما قبل حرب 1975-1990 في لبنان، في نهاية عام 1974، كانت الودائع بالعملات الأجنبية (823 مليون دولار أميركي) لم تتجاوز 18 ٪ من إجمالي الكتلة النقدية للبلاد وكانت أقل بكثير من الأصول بالعملات الأجنبية للنظام المصرفي (2.11 مليار دولار). هذا يعني أنّ معظم العملات الأجنبية التي كانت تدخل إلى لبنان كانت تتحوّل إلى ليرة لبنانية، مما ساهم بارتفاع قيمة العملة الوطنية.

منذ اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975، بدأت التحويلات من الدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانية تتضاءل تدريجاً لينتهي بها الأمر إلى الانعكاس مع بداية عملية الدولرة الجزئية غير الرسمية الناتجة عن الاختيار الحر للقطاع الخاص بعد التدهور للقوة الشرائية للعملة الوطنية وافتقاد الثقة بإمكانية ثباتها خلال الأزمة النقدية في الثمانينات، خاصة مع التضخم الجامح في عام 1987 الذي تلاه انخفاض حاد في قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، والذي تم الوصول إلى ذروته في عام 1992. ارتفاع دولرة الودائع الذي بلغ ذروته عام 1987 بمعدّل 86 % تراجع قليلاً ولكنه حافظ على معدّل مرتفع جدا لم ينزل عن 67 % في أفضل الفترات (اليوم عاد ليتخطى الـ 80 %). منذ الثمانينات، بدأ الدولار الأميركي يأخذ مكان الليرة اللبنانية بتأمين وظائفها الثلاث: وحدة الحساب، وسيط التبادل والمحافظة على قيمة المدخرات. ارتفع سعر الصرف الذي كان 3 ليرات لبنانية / دولار أميركي قبل الحرب إلى أكثر من 2850 ليرة لبنانية / دولار أميركي نهاية عام 1992.


أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024