منذ 7 سنوات | لبنان / الجمهورية

17 ألفاً و520 ساعة مضَت، والعسكريّون اللبنانيون التسعة لا يزالون مخطوفين، لا دموع أمهاتهم جفّت، ولا ألسنة أولادهم كلّت، ولا إرادة آبائهم ملّت. عامان يُعانق الأهالي صورَ أولادهم، يعتاشون من فُتاتِ الذكريات الجميلة التي أمضوها معهم. حفَر الدمعُ وجناتهم، لوى الشوقُ ظهورَهم... ولكنّهم أبوا أن يهدم الكفرُ ما شيّده إيمانُهم، لذا في الذكرى الثانية على إختطاف أبنائهم وعشيّة عيد الجيش إحتشدوا يصرخون: «أعيدوا لنا الحياة... بدنا ولادنا، تركونا نتنفّس».

كأنّ الليل أضاع طريقه وما عاد يعرف كيف ينجلي عن قلوب عائلات أهالي العسكريين المخطوفين. تدخل قضية الخطف عامها الثالث، وعملية البحث عن «طرف الخيط»، أو «ثغرة في الجدار»، مستمرّة، بحسب ما يسمعه الأهالي من تطميناتٍ موسمية. والنتيجة؟ «ع الأرض يا حكم».

«بعد إلك عين؟»

حاملين شعارَ الأرزة اللبنانية وعلى غصونها صور العسكريين التسعة تُكلّلها عبارة «غايبين سنتين وإنت يا حاكم بعد إلك عين؟»، إحتشد أمس أهالي العسكريين في ساحة رياض الصلح على مرمى حجرٍ من السراي الحكومي.

ما همُّ سعاد والدة المخطوف محمد يوسف من حرارة الشمس وحماوة الزفت، فقلبُها «مكوي أصلاً»، وضعَت كرسياً بلاستيكياً في وسط الساحة قرب المنصة، تحمل بألم صورة إبنها الواقف كالرمح ببزّته العسكرية.

أما حفيدُها حسين (عامان) الذي تنقل بين أيادي الحاضرين فلم يرتوِ من ضحكاتهم، بل بقي يُردّد منذ بداية التحرّك وحتى الدقيقة الأخيرة: «وينو البابا؟ بدّي البابا»، وعيناه عبثاً تمشّطان الساحة عن طيف محمد.

عند الثانية عشرة ظهراً، بدأت تتوالى الكلمات. مرة يسيلُ معها التصفيق ومراراً تسيلُ لها الدموع. وحده حضورُ والدة الشهيد علي البزال، التي جاءت لمساندة الأهالي، زرَع البسمة، فتهافت معظم الحاضرين لإلقاء التحيّة عليها والتعلّم من صمودها.

وعلى هامش مشاركتها، عبّرت لـ«الجمهورية» عن أهمية تضامن الأهالي لتجاوزِ المحنة: «تعني لي هذه الوقفة الكثير، وكأنّ علي لا يزال حيّاً معنا، ومثلما ساندتني العائلات في مُصابي الأليم أنا معهم حتى تحرير أولادهم». وأضافت: «العسكريون المخطوفون التسعة هم في نظري علي، ووصيّتي لكلِّ أمٍّ تتألم الإتكال على الله لأنه السلاح الوحيد لبلوغ الفرج».

أبناؤنا بحجم الوطن

وتحدّث حسين يوسف باسم الأهالي، فأكّد أنهم لم يسمعوا إلّا «ما في شي لهلّق»، فسأل: «مَن المسؤول؟». وناشد قائد الجيش العماد جان قهوجي: «أيها القائد الأب، إنّ عيد الجيش منقوصٌ اليوم، فهل يحتفل الأبُ بعيده وولدُه مفقودٌ ومذلول؟ رجالنا وشرفاؤنا في الأَسر وكرامتنا تُداس وعزَّتنا جُرحت وكبرياؤنا خُدش».

وفي حديث لـ«الجمهورية»، قال يوسف: «لم نغادر يوماً الساحة فقط إبتعدنا من الإعلام والأضواء خدمة للقضية، ولكن تبيّن لنا أنها في أدراج النسيان، فعُدنا بعزيمة أقوى».

وهل سيزور الأهالي الرسميّين لتحريك الملف؟، أجاب: «أمس (أمس الأول) زرنا اللواء عباس إبراهيم في المديرية العامة للأمن العام، وأكد لنا عملَه الجاد، ونحن لنا ثقة بكلمته وجهوده، لكن للأسف لم نصل حتى الآن إلى طرف الخيط».

وفي هذا السياق، يلفت يوسف إلى أنّ «الاتصالاتِ والمتابعاتِ الدقيقة تُظهر أنّ العسكريين المخطوفين لا يزالون على قيد الحياة وهذا ما يزيدنا عزماً». وأضاف: «حجمُ أبنائنا بحجم الوطن، ونحن على ثقة بأنّ في وسع الدولة اللبنانية أن تسترجعَهم، وإلّا فليستقل السياسيون من مناصبهم».

وجعٌ لا يندمل

توالت الكلمات المستنكرة لمراوحة ملفّ العسكريين مكانه. وحدها والدة المخطوف عبد الرحيم دياب (26 عاماً) كانت تتكلّم بنظراتها. في يدها اليمنى محفظة وفي اليسرى صورة صغيرها. إقتربنا منها فكان موعدُ حبّة الدواء، لم يكن من داعٍ لنسألها عن صحّتها، نظرة سريعة على المحفظة، بدت وكأنّها «فرمشية متنقلة».

لم نكد نُنهي إلقاءَ التحية حتى أطلقتِ العنانَ لمكنونات صدرها: «شو بعد ما صار فيّي؟ ضغط معي، بالقلب عندي، أعصاب عندي...». وعبّرت لـ«الجمهورية» عن وجعٍ لا يندمل مع الوقت ولا يهدأ إلّا برؤية طيف إبنها، قائلة: «إنّه صغيري وكنا نتساعد على إنهاء شقته في الطابق العلوي، على اعتبار أنه خاطب وما إن يُنهي شقته سيتزوّج، ولكنّه خُطف والأحلامُ تهاوت».

وتؤكّد الوالدة المنهارة أنها لم تحزن على وفاة زوجها بمقدار حزنها على خطفِ ابنها: «مات زوجي منذ نحو 7 سنوات، أعلم تماماً أنّ الأعمارَ في يد الله ولكن أن يغيب ابني فجأة، «شبّ متل قلب النهار»، فهذا عقابُ مؤبَّد».

أولويّة وإلّا...

أما نظام مغيط شقيق المخطوف ابراهيم مغيط، فأكّد أنّ «تحرّكَ الاهالي في الذكرى الثانية، ليس إلّا إنتفاضة على الصمت والهدوء اللذين لاذوا بهما في إنتظار الفرج، والأيامُ المقبلة ستشهد تحرّكاً أوسع».

وأضاف: «كلّ ما سمعناه مجرّد وعودٍ فارغة، ذهبت مع الريح، والحكومة لم تبذل جهداً بحجم القضية وكرامة الوطن»، متوعّداً: «إما أن يكون الملفُ أولويةً مطلقة وإمّا سنعود إلى قطع الطرق أيّاً يكن الثمن، فما عاد بوسعنا الإنتظار».

بين آب اللهّاب ولهيب جحيم الإنتظار، يدخل الأهالي الشهر الأوّل من العام الثالث على خطف أبنائهم. فكم بعد عليهم الإنتظار؟



أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024