مع غليان الأوضاع حول الأزمة السورية، لم يعد أحد يتحدث عن إقامة منطقة آمنة شمال سوريا سوى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

الرئيس التركي أكد مجددا على أن بلاده تهدف إلى تطهير 5 آلاف كم مربع شمالي سوريا من الإرهاب، لتكون منطقة آمنة يحظر فيها الطيران. وفي الحقيقة، فإعلان أو تصريح إردوغان ليس الأول من نوعه، وبالتالي فهو لا يشكل أي مفاجأة لا من العيار الخفيف أو الثقيل. لكن المهم هنا أنه يستخدم عامل الوقت بشكل ملفت، ويستثمر كل التناقضات الممكنة، الأمر الذي يحير ليس فقط خصومه وأعداءه، بل وأيضا حلفاءه وشركاءه.

لماذا يريد إردوغان منطقة آمنة، وحظر طيران، وهو يعرف جيدا أن القوات السورية الحكومية لن تهاجم تركيا؟ لماذا يريد ذلك وهو يعرف أن واشنطن والناتو يعلنون، على الأقل في تصريحاتهما، أنهما لا يحبذان هذه الفكرة؟ ولماذا يصر هكذا على تنفيذ فكرته مع العلم بأنه يدرك جيدا أنه يحارب الأكراد حلفاء الولايات المتحدة، والتي لا تعاديهم أيضا روسيا؟ ولماذا يعلن إصراره بمناسبة وبغير مناسبة على أنه يطهِّر شمال سوريا من الإرهاب، وهناك شبهات لا تزال تحوم حول علاقات لأنقرة مع تنظيمات وجماعات دينية يمينية متطرفة، وأخرى تلعب في اقتصاد وأمن الدول المجاورة؟

كل هذه تساؤلات تدور في رؤوس الخبراء والمراقبين، وفي الأوساط السياسية والأمنية. ولكن الرئيس التركي يتعامل بميكانيكية بدائية مع الملفات المطروحة، على الرغم من صبر الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وروسيا أيضا، على سياساته وتصريحاته التي لا تتوافق عادة مع اللباقة السياسة والدبلوماسية، بل والمثيرة للاحتقان السياسي بين بلاده والدول الأخرى، مما يعطي انطباعا بأنه يحارب الجميع، ولديه أوراق ووثائق ضد الجميع.

في الواقع، لم يأت الرئيس التركي بأي جديد في ما يتعلق بموضوع المنطقة الآمنة، ومنطقة حظر الطيران، لأن كل المقدمات التي وضعتها الولايات المتحدة وتحالفها الغربي – العربي كانت من الضروري أن تؤدي إلى شكل من أشكال المناطق الآمنة، على الرغم من محاولات واشنطن التنصل من هذه الجريمة التي كان لها سابقة في ليبيا، والعالم كله يعرف إلى ماذا قادت المنطقة الآمنة وحظر الطيران، وماذا فعل الناتو في الساحة الخضراء وباب العزيزية، وماذا يجري في ليبيا الآن.

الآن، يؤكد الرئيس التركي مجددا أن بلاده تعاونت مع ما يسمى بـ "المعارضة السورية المعتدلة"، وتمكنت من تطهير مدينة "جرابلس" من تنظيم داعش، وبدأ الأهالي بالعودة إليها، بل وأعلنت رئاسة الأركان التركية في 2 أكتوبر/تشرين الأول الحالي عن سيطرة ما يسمى بـ "الجيش السوري الحر"، على 960 كلم مربع من مناطق شمالي حلب، وذلك بعد مرور 40 يوما على انطلاق عملية درع الفرات العسكرية التركية في الأراضي السورية.

هيئة الأركان التركية أكدت أيضا على أن الجيش الحر حرر 111 منطقة مأهولة، واستهدف أكثر من 1600 موقع لداعش بواسطة المدفعية وراجمات الصواريخ وقذائف الهاون. وبطبيعة الحال ننتظر من السلطات التركية أن تعلن عن عودة ملايين المهاجرين واللاجئين السوريين إلى أراضي بلادهم الجديدة تحت قيادة وحماية الجيش السوري الحر الذي سيكون بطبيعة الحال في حاجة ماسة إلى دعم دولي وإقليمي، بالأفراد والأموال والسلاح، وربما الخبراء والمستشارين العسكريين الأتراك والغربيين.

هذه ليست سخرية إطلاقا، بقدر ما أن تكرار هذا الكلام يتيح لنا التعامل بجدية مع الخطوات التركية وتقدير مدى خطورتها ليس فقط على وحدة الأراضي السورية، بل وأيضا على أي اتفاق مستقبلي بين موسكو وواشنطن، على الرغم من الخلافات المفاهمية القائمة بين روسيا والايات المتحدة. ولكن أنقرة تحاول أن تستخدم حتى هذه الخلافات لصالح أجندة قد تنعكس سلبا عليها في ما بعد. فالأوضاع السياسية متقلبة لدرجة أن كل الأوراق التي يستخدمها الرئيس التركي قد تنقلب ضده بشكل كامل.

لقد لفت الرئيس التركي أنظار العالم كله بحديثه "الأيديولوجي" الخطير حول معاهدتي "سيفر" و" لوزان". إذ انتقد العالم كله، وبالذات الدول التي وقعت مع الإمبراطورية العثمانية العجوز آنذاك هاتين المعاهدتين. وفي الوقت الذي أغفل فيه طبيعتهما وظروفهما التاريخية والعسكرية، وطبيعة العلاقات الدولية وتدهور أوضاع "الباب العالي" بعد الحرب العالمية الأولى، وتجاهل تماما أن الإمبراطورية الضعيفة كان من الأفضل لها أن توقع على معاهدة "سيفر عام 1920، ثم "لوزان" عام 1923، بدلا من أن تتفكك ولا يبقى منها أي شيء. في الوقت الذي أغفل فيه كل ذلك، انتقد خصوم الإمبراطورية العثمانية (بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا واليابان واليونان ورومانيا ويوغسلافيا) الذين أجبروا الباب العالي على الخضوع والانصياع، ومهدوا عمليا لانهيار وتفكك الإمبراطورية وتوزيع تركة "الرجل العجوز". ولكن من جهة أخرى حافظوا على وجود تركيا، بدلا من تفكيك الإمبراطورية كلها وتوزيعها.

هذا الحديث الخطير، يكاد يكون الدافع والمحرك الأيديولوجي لكل سياسات الرئيس التركي، لدرجة أن العديد من وسائل الإعلام اتهمه بالسعي إلى بعث الإمبراطورية العثمانية على أسس معادية للحضارات المجاورة، والتدخل في شؤون سوريا والعراق ومصر، واستعداء هذا البلد ضد ذاك، وتأليب هذه الدولة ضد تلك. وذهب البعض إلى أن الأجندة الدينية للرئيس إردوغان تتعارض تماما مع ما يعلنه بشأن الدولة العلمانية والدستور التركي الجديد المزمع إعلانه وإجراء استفتاء عليه. واستشهدت وسائل الإعلام والأوساط السياسية التركية باتساع الهجوم على تراث مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، وانتهاج خطوات وإجراءات من شأنها التراجع عن خط تركيا ما قبل حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي المحافظ، وتدخله في شؤون الدول المجاورة على أسس دينية عرقية.

السؤال المهم للغاية يدور حول: من سيسمح لإردوغان بالاستمرار في تنفيذ أجندته السياسية والعقائدية؟ ومتى يمكن أن تتحول كل الأوراق التي في يده إلى أوراق ضده؟ ومتى يدرك أن تركيا لا تعيش في القرن التاسع عشر، وأنها ليست دولة واحدة ووحيدة في المنطقة، وأن هناك دول أخرى حولها؟!


أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024