بعد جمع تبرعات لإنشاء تفريعة قناة السويس –وصلت إلى أكثر من ٦٠ مليار جنيه- وبعد مبادرة "تحيا مصر" ومبادرة "صبّح على مصر بجنيه"، أطلق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي دعوة لجمع الفكّة المتبقية من معاملات المصريين وتوجيهها لخدمة المشروعات الوطنية.

واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي جدلاً وسخرية من المبادرة الجديدة للرئيس المصري ومطالبته للمواطنين بترك أجزاء ضئيلة من معاملاتهم البنكية لصالح المشاريع القومية.

وكان السيسي قال في حديثه خلال افتتاح مشروعات اقتصادية بمنطقة غيط العنب بالإسكندرية: "أنا عايز فكّة معاملاتكم البنكية.. هتفيد البلد وهتعمل ملايين ونعمل بيها مشاريع، يعني لو واحد بيصرف شيك بـ1255 وشوية فكة، ناخد الفكة دي ونحطها في حساب لصالح البلد".

وانتقلت السخرية من مواقع التواصل الاجتماعي لتصبح وقائع على الأرض في الشارع المصري، حيث ذكر محمد حسن وهو مواطن مصري لـ"هافينغتون بوست عربي"، ما حدث مع سائق إحدى سيارات الأجرة، حيث كان يتبقى له ٣ جنيهات، وعند مطالبته السائق بهم قال له "أنا بلمهم عشان أوديهم للريس.. هحطهم على الفكة اللي معايا عشان مصر.. عندك اعتراض"، وبالفعل لم يستطع الحصول على بقية المبلغ.

هذه القصة مع سائق التاكسي ليست الوحيدة وهي مرشحة للتكرار ولو على سبيل الهزر، ولكن هل المبادرة ذات جدوى اقتصادية فعلياً؟ وما هي التخوفات التي تدور في رؤوس المصريين حولها؟

خطاب لا يليق بالرئيس

في البداية انتقد الكاتب الصحفي أنور الهواري، خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي أمس الأول وقال إنه لا يليق أن يصدر عن الدولة المصرية، ولا يليق أن يوجه للشعب المصري.

وأشار الهواري في تصريحات خاصة لـ"هافينغتون بوست عربي"، أن الرئيس يريد أن يحصر عمله في "دور المنسق بين الحكومة والجمعيات الأهلية وباقي مكونات المجتمع المصري، وهذا ليس صحيحاً، ويؤثر بالسلب في الخطابات التي يخرج علينا بها"، مضيفاً "إننا لسنا في خصومة مع الرئيس، ولكن ما يخرج علينا به يؤدي إلى هذا الكم من الانتقاد”.

ونوَّه الكاتب الصحفي إلى أنه كان ينتظر من الرئيس عند التحدث عن الاقتصاد أن يوضح كيف يعيد عائدات السياحة المصرية التي وصلت إلى 15 مليار جنيه في 2010، ثم انحدرت بشدة خلال الفترة الأخيرة، "كما كنا نرغب في معرفة خططه لإعادة تحويلات المصريين بالخارج إلى الحجم الذي كانت عليه، حيث كانت تقدر بـأربعة أضعاف دخل قناة السويس.. وكذلك كنا نرغب من الرئيس أن يوضح لنا كيف انخفضت إيرادات قناة السويس التي تم إهدار مدخرات المصريين على مشروع توسعتها من دون وجود عائد اقتصادي ملموس منها حتى الآن، وأن يكشف لنا عن رؤيته للتعامل مع الديون المصرية وأعبائها، وكيف سيوفر فرص عمل للعاطلين الذين يلقون بأنفسهم إلى الموت داخل البحر، وكم عدد المدارس والمستشفيات التي ستحسن مستوى الخدمة للشعب، هذا ما كنا ننتظره من الرئيس وليس مشروعاً لا يليق أن تطلقه إلا جمعيات أهلية".

تساؤلات أهم من الفكة

أما الخبير الاقتصادي رضا عيسى، فقال إن خطاب الرئيس حول "مبادرة الفكة" لا يستحق التعليق، لكن الوضع في مصر يطرح عدداً من التساؤلات المهمة، ومنها "هل يعقل أن نترك الصناديق الخاصة خارج الموازنة العامة للدولة، رغم أن ما أمكن حصره من أرصدتها (الأرصدة تعني المتبقي بعد المصروفات) كان في حدود 40 مليار جنيه؟ وهل يعقل أن تكون كل حصيلة الضريبة العقارية (غير التصاعدية) في الموازنة الجديدة هي 2.6 مليار جنيه فقط (مقابل رسوم تراخيص تسيير السيارات 4.6 مليارات) برغم كل القصور والفيلات والمنتجعات في طول البلاد وعرضها؟"

وتساءل عيسى في تدوينة نشرها على صفحته بموقع فيسبوك: "كيف يتم السماح بإعفاء ملايين الأمتار المربعة من الأراضي الفضاء التي تبيعها الدولة بالرخيص والتي يجري "تسقيعها" جهاراً نهاراً، وتتحقق أرباح بالمليارات من ورائها، من الضرائب؟ وكيف نتجاهل واقعة الوزيرة التي رفضت السفر بالدرجة السياحية لأنها تريد السفر بدرجة رجال الأعمال، دون أن نفتح ملفات ترشيد الإنفاق الحكومي ووقف الهدر والسفه فيه؟"

وذكر الخبير الاقتصادي أن تلك التساؤلات تعد أفكاراً تتعلق بتصحيح بعض الأوضاع في مالية الدولة ويرى أنها "الأولى بالطرح الآن، وليس مشروعاً مثل لمّ الفكة الذي تحدث عنه الرئيس”.

في عهد الإخوان

فكرة جمع القروش المتبقية في المعاملات المالية لم يكن طرحها الأول على لسان الرئيس السيسي، حيث تمت مناقشة مشروع مشابه تحت اسم "جبر الجنيه"، داخل اجتماعات اللجنة الاقتصادية لحزب الحرية والعدالة، وبحضور نواب الحزب في اللجنة الاقتصادية بمجلس الشورى، بعد أن تقدم به أحد أعضاء الحزب في محاولة لنقل التجربة الخليجية بوضع صناديق تشرف عليها الحكومة داخل المحلات التجارية، يقوم من خلالها المواطن بوضع "الفكة" بداخلها للمساهمة في الأعمال الخيرية.

ويوجد في العديد من المطارات الجوية ومنها مطار القاهرة الدولي، والتي تطالب المسافر بترك عملة البلد التي يغادرها إذا لم يكن لها قيمة لديه، أو عدم توقع استخدامها مرة أخرى.

الجدوى الاقتصادية

وعن جدوى المبادرة قال الدكتور طه سيد بدوي أستاذ الاقتصاد بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، إن المبادرة تشير إلى وجود عجز تام في الموازنة العامة للدولة، وأن القيادة تسعى لجلب مزيد من الموارد أياً كان مصدرها أو قيمتها"، مؤكداً أن لغة الاقتصاد في العالم الآن تبدأ بالمليارات، وفي الاقتصاد نعتبر الفكة عملة مساعدة وليست أساسية، وحديث الرئيس يكشف أن العملة الرئيسية منهارة.


وأضاف بدوي في تصريحات خاصة لـ"هافينغتون بوست عربي"، أن "تلك المبادرة عديمة الفائدة وتؤثر سلباً على الوضع الاقتصادي، ولا تتناسب مع حجم التحديات والمخاطر التي تواجهها مصر"، مشيراً إلى أن "طرحها في هذا الوقت أكبر دليل على فشل السياسات الاقتصادية، وعدم قدرة البنك المركزي على إدارة حركة الاقتصاد، كما أنها تقلل من فرص جذب الاستثمارات وتؤثر على الاستثمارات القائمة وتهدد بقاءها".

وتابع أستاذ الاقتصاد أن المبادرة "تأتي بعد وقت قصير من إقرار ضريبة القيمة المضافة، والتي كانت الحكومة متحمسة لها لأنها توفر حوالي 41 مليار جنيه. فما الداعي للفكة التي لن تتجاوز 30 مليون جنيه على أقصى تقدير، وهو ما يؤكد أن القرارات الاقتصادية التي يتم اتخاذها الآن قرارات متسرعة وخاطئة، يمكنها أن تؤثر سلباً على ثقة صندوق النقد الدولي في تعافي الاقتصاد المصري".

الفكة واجبٌ وطني !

في المقابل قال أشرف العربي عضو اللجنة الاقتصادية بمجلس النواب، في تصريحات صحفية، إن مبادرة "جمع الفكّة" فكرة جيدة للغاية خصوصاً أنها منتشرة في التعاملات اليومية سواء مع البنوك أو المحلات وغيرها، مشيراً إلى أن المشاركة في المبادرة "واجب وطني من شأنه محاولة رفع المعاناة عن كاهل البسطاء والفقراء واستغلالها في مشروعات تنموية تفيد المصريين".

وهو الأمر نفسه الذي ذهب إليه طلعت خليل عضو لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب قائلاً في تصريحات صحفية إن "القضاء على العشوائيات مسئولية مجتمعية بالمشاركة مع الدولة وليست مشكلة الحكومة بمفردها، وأزمة ارتفاع الأسعار لها أسباب واضحة، أولها تراجع سعر العملة المحلية في ظل حجم ما تستورده الدولة من الخارج بالعملة الصعبة، والذي يمثل أكثر من 70% من احتياجاتها، والمبادرة تأتي كإحدى الآليات الحقيقية لزيادة قوة العملة المحلية في مواجهة باقي العملات الأخرى".

من "تحيا مصر" حتى "الفكة".. جمع الأموال دون رقابة

مبادرة الفكة ليست الأولى التي يطرحها الرئيس السيسي منذ توليه مقاليد الحكم، فقد سبق أن طرح عدة مبادرات أخرى لدعم الاقتصاد، منها ما أعلنه في 24 يونيو 2014، من تنازله عن نصف راتبه البالغ 42 ألف جنيه، وذلك من أجل مصر، وفقاً لما قاله خلال مراسم تخرج دفعة جديدة بإحدى الكليات العسكرية.

وبعدها بأيام وتحديداً في يوليو 2014، أعلنت رئاسة الجمهورية عن تدشين صندوق "تحيا مصر"، تحت رقم 037037، تفعيلاً للمبادرة التي سبق أن أعلنها الرئيس بإنشاء صندوق لدعم الاقتصاد، وذلك تقديراً للحظات الدقيقة التي يمر بها الوطن وما يصاحبها من ظروف اقتصادية واجتماعية حرجة استدعت مشاعر المصريين الإيجابية تجاه الوطن.

ودُشّن الصندوق لتلقي مساهمات المصريين في الداخل والخارج، على أن يخضع للرقابة الكاملة للجهاز المركزي للمحاسبات، وتحت الإشراف المُباشر للرئيس، وبمشاركة فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، وبابا الإسكندرية ومحافظ البنك المركزي. وتم جمع أكثر من 5 مليارات جنيه مصري خلال 15 يوماً فقط من تدشين الصندوق.


ثم جاء طرح مبادرة "صبح على مصر بجنيه" في فبراير الماضي، وذلك عندما دعا السيسي جموع المصريين للمشاركة في المبادرة، خلال كلمته في احتفالية رؤية مصر 2030، وقال السيسي خلالها "لو كل يوم 10 ملايين مصري من الـ90 مليون بتليفون صبّح على مصر بجنيه يبقى معانا 10 مليون جنيه، يعني في الشهر بـ300 مليون جنيه، يعني في السنة 4 مليارات جنيه"، وبعدها أعلنت الشركة المصرية للاتصالات، تخصيص رقم حساب (1333)، لمشاركة عملائها في المبادرة التي أعلن عنها السيسي، وصاحبت ذلك حملة إعلامية ضخمة في جميع وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة.

ولكن وفقاً لتصريحات صحفية لمصدر مسؤول بالجهاز المركزي للمحاسبات، لم تطالب أية جهة بمصر بإجراء رقابة على صندوق تحيا مصر الذي دعا الرئيس إلى تدشينه، وأن جمع الأموال يتم من دون أي رقابة، الأمر الذي يثير تخوفات من تكرار تجارب سابقة من جمع الأموال دون وجود رقابة عليها، وظهور شبهات فساد كبيرة حول تلك المشروعات.



أخبار متعلقة



جميع الحقوق محفوظة 2024